هل تغير الموقف الإسرائيلي من السلام؟ هل أصبحت إسرائيل مستعدة لقبول حل سلمي للصراع مع العرب والفلسطينيين؟ هذه بعض الأسئلة التي شغلت المراقبين بعد حديث الرئيس الإسرائيلي، شيمعون بيريز، عن مبادرة السلام العربية أثناء زيارته الإسبوع الماضي لمصر. أشار بيريز إلى أنه لا يتفق مع كل ما جاء في المبادرة، وأنها تحتاج إلى مفاوضات أكثر، لكنه اعتبر روح المبادرة صحيحة. ورد الرئيس المصري، حسني مبارك، بقوله إن المبادرة ليست للتفاوض. تحدث بعد ذلك وزير الدفاع، إيهود باراك، عن أن القيادات الإسرائيلية تنظر بشكل جاد إلى "المبادرة السعودية". وأضاف بأن الوقت ربما حان لمتابعة سلام شامل للمنطقة في ضوء تعثر المفاوضات الفردية مع الفلسطينيين والسوريين. سبق لبيريز أن طرح الخيار ذاته في سبتمبر الماضي عندما اقترح أن تجمع كل المسارات في مسار واحد. والحقيقة أن حديث الإسرائيليين بشكل إيجابي عن المبادرة العربية ليس جديداً تماماً. حيث سبق لوزير الإسكان والبنى التحتية، مائير شتريت، أن قال العام الماضي ما قاله بيريز مؤخراً من أن المبادرة تشكل أساساً جيداً للمفاوضات. ورئيس الوزراء الإسرائيلي أولمرت سبق وتحدث بإيجابية عن المبادرة العام الماضي. هل هناك من جديد في مثل هذه الأحاديث الإسرائيلية؟ ربما بدا للبعض أن فيها جديدا. فجميع القيادات الإسرائيلية تقريباً، ما عدا من ينتمي منهم إلى ما يعرف بحركة "السلام الآن"، رفضوا المبادرة حالما وافقت عليها قمة بيروت العربية عام 2002. الشيء المختلف الآن أن الإسرائيليين تخلوا عن الرفض الفوري للمبادرة، وأصبحوا يتحدثون عن إمكانية التفاوض حولها. وفكرة التفاوض هذه يجب أن توضع تحتها خطوط كثيرة. الجديد الآخر في الموقف الإسرائيلي هو الدعوة إلى التخلي عن المسارات الفردية، والدعوة إلى مسار واحد شامل، أو مفاوضات عربية إسرائيلية. بالأمس كانت إسرائيل ترفض التفاوض مع العرب، وتصر على أن تتفاوض مع كل دولة عربية على حدة. هل تغير موقف إسرائيل؟ لا لم يتغير أبداً. هل تغير موقفها إذن من المبادرة، بعد أن كانت ترفضها، كما توحي بذلك الأحاديث الأخيرة؟ أيضاً لابد أن تكون الإجابة بالنفي عن هذا السؤال. إذن ما الذي يمكن استنتاجه في هذه الحالة؟ ما يجب الانتباه إليه هنا أن أحاديث الإسرائيليين لا تقول بقبول المبادرة كماهي، وإنما تقول بضرورة فتح باب التفاوض حولها كأساس للحل. والذي تريده هذه القيادات هو التفاوض حول بنود المبادرة التي ترفضها إسرائيل، وأهمها البند المتعلق بحق العودة، والآخر المتعلق بالقدس عاصمة للدولة الفلسطينية. والتفاوض الذي يقترحه الإسرائيليون هنا أن يكون مع الدول العربية، وليس مع الفلسطينيين، مع أن البندين المذكورين هما شأن فلسطيني أولًا، وليسا شأناً عربياً لا علاقة للفلسطينيين به. يبدو أن الإسرائيليين يهدفون من هذا الطرح إلى: أولاً فتح باب للتفاوض مع الدول العربية بإعتبارها صاحبة المبادرة، وخاصة منها السعودية. وهي تأمل بذلك أن تحصل على اعتراف عربي شامل قبل التوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين. ثانياً تريد بمثل هذه الخطوة ممارسة الضغط على الفلسطينيين. ثالثاً تأمل في أن تعطي المفاوضات مع العرب حياة جديدة لفكرة المفاوضات المفتوحة بعد أن أخذت هذه الفكرة تفقد حيويتها ومصداقيتها مؤخراً. ثالثاً تأمل أن تعطيها هذه المفاوضات مع الدول العربية غطاءً ومناعة في الظروف الإقليمية والدولية المضطربة حالياً. مقابل ذلك تبقى السياسة الإسرائيلية تجاه ما يعرف بعملية السلام كما هي: ترتكز على فكرة أن التوصل إلى سلام مع العرب في المرحلة الحالية ليس من مصلحة إسرائيل. قناعة دوائر صنع القرار الإسرائيلية أن عامل الزمن حتى الآن بقي إلى جانب الدولة العبرية وليس إلى جانب العرب. فالعرب، ومعهم الفلسطينيون هم الذين حتى الآن يخسرون سياسياً بالإضافة إلى خسارة مزيد من الأرض. منذ عام النكبة 1948 وحتى هذه اللحظة تحققت لإسرائيل مكتسبات من دون الإضطرار إلى الدخول في سلام شامل. في حرب الأيام الستة استولت إسرائيل على ضعف الأراضي التي حصلت عليها من خلال قرار التقسيم. حرب أكتوبر انتهت إلى إخراج مصر، أكبر وأقوى الدول العربية، من معادلة الصراع العسكري. ومع خروج مصر سقطت فكرة لاءات الخرطوم الثلاث. الغزو العراقي للكويت انتهى بمؤتمر مدريد عام 1991، وهو المؤتمر الذي دشن ما صار يعرف بعملية السلام. في إطار هذه العملية توصلت إسرائيل إلى اتفاقية أوسلو مع منظمة التحرير، والتي بموجبها اعترفت المنظمة بحق إسرائيل في الوجود، ووضعت أسس السلطة الفلسطينية في الداخل. بعد ذلك جاءت اتفاقية وادي عربة مع الأردن. ثم بدأت ظاهرة عرفت حينها بـ"الهرولة العربية" تجاه إسرائيل. كل ذلك من دون حاجة إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها عام 1967، أو إلى إقامة الدولة الفلسطينية. هناك مكسب إسرائيلي آخر، وهو أن عامل الزمن زاد من تفاقم الانقسامات العربية. آخر الأمثلة على ذلك غزو الكويت، والاحتلال الأميركي للعراق، واغتيال الحريري وما أعقبه من توتر العلاقات العربية -العربية، وخاصة لبنان مع سوريا. لكن أبرز وأهم هذه الانقسامات بالنسبة للإسرائيليين هو الانقسام الفلسطيني الحاد ممثلاً في الصراع بين حركتي "فتح" و"حماس" حاليا". بعبارة أخرى، عامل الزمن حتى الآن أتى لإسرائيل إلى جانب السلام، بالاعتراف والتطبيع، والأرض، والانقسامات العربية، والفلسطينية. صحيح أن السلام في نهاية المطاف هو حاجة إسرائيلية قبل أن يكون حاجة عربية، لكن الظروف الراهنة، الإقليمية والدولية (خاصة العربية منها) منحت الإسرائيليين حرية الحركة، والقدرة على تحمل امتداد أمد الصراع في سبيل هدف يرى الإسرائيليون أنه يستحق ذلك. ما الذي تريده إسرائيل للتوصل إلى سلام شامل؟ هناك ثلاثة أهداف للسياسة الإسرائيلية: الأول رفض فكرة حق العودة جملة وتفصيلاً، والثاني التمسك بوحدة القدس "عاصمة موحدة" للدولة العبرية وعدم السماح بتقسيمها مرة أخرى، والثالث رفض الانسحاب إلى حدود 1967 في محاولة للاحتفاظ بأكبر مساحة ممكنة من أراضي الضفة الغربية. من دون تحقيق هذه الأهداف لا ترى إسرائيل مصلحة في السلام، في الظروف الراهنة. ولجعل هذه السياسة عملية، ومتحركة، ومقبولة دولياً، اعتمدت الحكومة الإسرائيلية منذ مدريد آلية المفاوضات المفتوحة، أو المفاوضات من دون هدف معين، أو سقف زمني محدد. في هذا الإطار رفضت إسرائيل مبادرة السلام العربية لأنها تحدد مبادئ واضحة (الأرض مقابل السلام، والتطبيع مقابل السلام الشامل)، وتحدد أهدافاً واضحة أيضاً يجب أن تنتهي إليها المفاوضات في الأخير، وهي: إنسحاب إسرائيل إلى حدود 67، وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، وإيجاد حل عادل لمسألة اللاجئين الفلسطينيين. المبادرة العربية تتناقض مع السياسة الإسرائيلية المعتمدة حالياً. ما الذي حصل الآن وجعل الإسرائيليين أكثر استعداداً للتعاطي مع المبادرة؟ هل تغيرت السياسة الإسرائيلية؟ لا لم تتغير. الذي تغير هو التكتيك الإسرائيلي. وما الأحاديث الأخيرة عن المبادرة إلا محاولة لإعادة التموضع بهدف التأقلم مع هذه المتغيرات. وهي متغيرات من الأهمية والخطورة بحيث لا يمكن التقليل من خطورة تداعياتها مستقبلاً. الفشل الأميركي في الحرب على الإرهاب، والفشل في العراق وأفغانستان. وهو فشل مدو بالنسبة للإسرائيليين لأنه آذن بسقوط تيار "المحافظين الجدد". هو فشل مدو ثانيا ليس لأن الأميركيين لم يكونوا يعرفون المجتمع العراقي، بل لأنهم بإسقاط النظامين السابقين في كل من العراق وأفغانستان، عززوا موقع إيران، الأمر الذي فرض تغير معادلة توازنات القوة في الخليج العربي، لصالحها. وهو فشل مدو ثالثاً لأنه وفّر غطاءً سياسيا لبرنامج إيران النووي. من هنا فهو فشل يهدد بتعثر الاستراتيجية الأميركية في المنطقة. وسط كل ذلك، انفجرت الأزمة المالية الحالية داخل الولايات المتحدة، والتي سرعان ما تحولت إلى أزمة عالمية خانقة. وربما أنه من سوء حظ الإسرائيليين أن هذه التطورات تزامنت مجتمعة مع انتخابات رئاسية أميركية تاريخية. حيث يبدو حتى الآن أن الرئيس الأميركي القادم سيكون باراك أوباما، الذي لم يترك فرصة لتأكيد صداقته لإسرائيل، والتزامه بأمنها. لكن التغيرات المذكورة، والتي تعصف بالنظام الدولي، وبالسياسة الأميركية تحديداً، تفرض مراجعة عميقة وشاملة لهذه السياسة. في هذه الظروف ستكون الأولوية الأميركية للداخل. باختصار يجد الإسرائيليون أنفسهم الآن أمام فشلهم في لبنان، وفشل أميركي في العراق، وأزمة مالية دولية، وبرنامج نووي إيراني يتحصن داخل هذه المتغيرات. وسط ذلك يخشون التعرض لضغوط لا قبل لهم بها. يأملون في تشكيل جبهة مع العرب لمواجهة إيران، والتمترس خلف فكرة المفاوضات المفتوحة، عربياً هذه المرة.