عرضنا في المقالات السابقة لآراء ابن خلدون في الدولة متقيدين بما "قاله صاحب المقدمة" دون الاهتمام لا، بما لم يقله وسكت عنه، ولا بما يمكن أن ننسبه إلى "ما بين سطور مكتوبه"، ولا بما ينطبق أو لا ينطبق على "ما بعده" لكون ما قاله "يقتضيه" أو "لا يقتضيه"! والواقع أن أية قراء لابن خلدون تريد "الركوب على أكتافه" لتتمكن من رؤية "ما بعده" بوضوح أكبر، تقتضي أول ما تقتضي، عدم إغفال التقيد بحقيقة أن ابن خلدون كان يفكر في موضوع "الدولة" (الذي ينتمي اليوم إلى فلسفة التاريخ عموماً، والتاريخ السياسي خصوصاً) داخل إطار محدد هو إطار التجربة التاريخية العربية بعد الإسلام إلى عهده. فنظرياته في العمران هي -في المنطلق كما في المنتهى- تخص تجربة خاصة. هذا أولاً، ثم لابد من الانتباه ثانياً إلى أن ما جعل نظرياته، في الدولة والمجتمع في عصره، تحظى باهتمام خاص بعد قرون من وفاته (تماماً كما حدث مع ابن رشد)، هو ما ينطوي عليه عنصر "الخاص" فيها (في تلك النظريات) من اتساع وعمق جعل عنصر "العام" الثاوي وراءها يبرز بصورة جعلته يلقي بظلاله على أنواع أخرى من "الخاص" تبدو لمن ليست له علاقة معرفية بآراء ابن خلدون وكأنها هي التي تحتل محل العام في التجارب التاريخية الأخرى. ذلك ما جعل بعض الماركسيين العرب وغيرهم في الستينات من القرن الماضي -حينما ساد الطموح إلى تطبيق التفسير المادي التاريخي بصورة ما وبدرجة ما على واقع العالم الثالث عموماً وواقع العالم العربي (وتاريخه) خصوصاً- ينظرون إلى ابن خلدون بوصفه رائد "المادية التاريخية". والواقع أن ما جعل "الخلدونية" تبدو وكأنها أقرب إلى "الماركسية" هو ما قلناه قبل بصدد علاقة الخاص بالعام في "الخلدونية". لقد حلل ماركس واقع المجتمع الأوروبي (إنجلترا وألمانيا وفرنسا) تحليلاً أبرز فيه ما ينطوي عليه عنصر "الخاص" في المجتمع الأوروبي من اتساع وعمق جعل عنصر "العام" الثاوي وراءه يبرز بصورة جعلته يلقي بظلاله على أنواع أخرى من "الخاص" تبدو، لمن ليست له علاقة معرفية بحقيقة آراء ماركس، وكأنها هي التي تحتل محل العام في التجارب التاريخية الأخرى. هذا النوع من العلاقة بين الخاص والعام، في كل من آراء ابن خلدون وتحليلات ماركس، هو الذي كان وراء ذلك الإعجاب بابن خلدون من طرف كُتاب كان لهم شأنهم في الغرب والعالم العربي، إعجاب أدى ببعضهم إلى إطلاق اسم "ماركس العرب" على صاحب "المقدمة". ومقابل هذا، الإعجاب بابن خلدون بعد ماركس كان يمكن أن يتحول إلى إعجاب بماركس بوصفه "ابن خلدون أوروبا"، لو أن الأوروبيين تعرفوا بعمق بصاحب "المقدمة"، قبل مجيء ماركس. ولو حدث هذا لجاز أن يكون قد قام هناك في أوروبا القرن التاسع عشر "خلدونيون لاتين"، أصحاب مذهب في فهم التاريخ (وليس في فهم أرسطو) من قبيل مذهب "الرشدية اللاتينية". لقد أردنا بهذه المقارنات (بين محتملٍ هنا ومحتملٍ هناك)، ليس تضييق الشقة بينهما بل إبراز أن الأهم من ذلك هو إبراز مدى التقارب أو التباعد بين النتيجة التي توصل إليها كل منهما: لقد توصل ماركس إلى أن "مشكلة المجتمع الأوروبي الصناعي" في عهده تكمن فيما عبر عنه بـ"التناقض بين الطابع الجماعي لعملية الإنتاج والطابع الفردي لملكية وسائل الإنتاج". أما ابن خلدون فقد توصل إلى نتيجة مغايرة وهي أن مشكلة المجتمع العربي في عهده هي في "التناقض بين خشونة البداوة ورقة الحضارة". والفرق بين التناقضين هو أن الأول يحمل معه نوعاً من الحل، أما الثاني فهو مما ينتمي إلى ما يعبر عنه بـ"ما فوق التحديد" أو "ما ينأى عن التحديد" sur détermination. الحل الذي يحمله التناقض الأول في جوفه هو العمل على أن تصبح وسائل الإنتاج جماعية، (أي تأميمها)، كعملية الإنتاج نفسها. أما الحل في التناقض الأول فلم يكن من المنظور زمن ابن خلدون، لأنه كان يتطلب أن تفقد "خشونة البداوة" (البداوة بالمعنى الواسع للكلمة: بداوة جغرافية واقتصادية واجتماعية وفكرية ودينية) ما يجعلها تعيد إنتاج نفسها باستمرار وأن تتحول "رقة الحضارة" من كونها "نحلة في المعاش غير طبيعية" تقوم على مجرد "استجادة أحوال الترف"، إلى "نحلة في المعاش طبيعية" تقوم على "استجادة أحول العمل والإنتاج". وإنما قلنا إن هذا "التحويل" هو مما ينتمي إلى "ما ينأى عن التحديد" لأنه يتطلب إحداث تغيير في جغرافية العمران، إلى تقليص البادية والبداوة، وهذا ما لم يكن من "القابل للتفكير فيه" زمن ابن خلدون، ولذلك غاب "هاجس الإصلاح" في خطابه. أما في أوروبا فقد حصل هذا التحويل قبل ماركس، وذلك من خلال الثورة الصناعية، التي حل فيها استعمالُ "الجرار الحديدي" محل المحراث الخشبي... الخ. إن التطور التاريخي زمن ماركس كان يتجه بقوة نحو سيطرة الإنسان على الطبيعة، بما في ذلك طبيعة "الإنسان" نفسه. لقد جاء ماركس بعد عصر النهضة وعصر الأنوار، وأوروبا تدخل في عصر التوسع الاستعماري الذي مكنها من حل مشاكلها الاقتصادية بما تأتي به من البلدان المستعمرة: مواد أولية مجانية أو شبه مجانية وعمالة رخيصة... أما ابن خلدون فقد جاء في زمن وصلت فيه الأمور إلى الحضيض في كل مجال "وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة" كما قال هو نفسه. لم يكن من الممكن التفكير يومئذ في الوسيلة التي يمكن بها "حل" التناقض بين "خشونة البداوة ورقة الحضارة". ذلك لأن هذا التناقض لم يكن من نوع التناقض الجدلي الذي يلعب فيه "نفي النفي" الدور الرئيسي في عملية التجاوز المطلوبة. في أوروبا زمن ماركس كانت الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج ("البورجوازية" أصحاب المدن) تشكل "الإثبات" فقامت الطبقة العاملة التي خرجت من جوفها والتي أصل معظم أفرادها من البادية، لتشكل "النفي" (مع الاحتفاظ بأشياء منها ومن نقيضها)، وبانتصارها يتحقق "نفي النفي" أي "الاشتراكية" التي تقوم على جماعية الإنتاج وجماعية ملكية وسائله. أما التناقض بين "خشونة البداوة ورقة الحضارة" فهو وضع لا مجال لتدخل الجدل في حله: ذلك أنه تناقض بين "حضارة" استهلاكية غير منتجة، أقيمت على أساس اقتصادي واهٍ، وأسلوب في "الإنتاج" غير طبيعي، أسلوب يمكن وصفه بأنه: أسلوب الإنتاج الخاص بالاقتصاد القائم على الغزو. والتناقض الأساسي الذي يكشف عنه هذا النوع من الاقتصاد، ليس بين "قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج"، بل إنه التناقض بين حضارة استهلاكية ومؤسسات فوقية مصطنعة، وبين بنائها التحتي- الاقتصادي والاجتماعي، الذي أقامت نفسها عليه بشكل تعسفي: بناء لا يتحملها، ولا يقدر على حملها، لأنها لم تكن نمواً طبيعياً، ولا تطوراً تدريجياً له. هذا التناقض المسؤول عن "الدورات العصبية" التي حدثنا عنها ابن خلدون، وعن الأزمات الاقتصادية الدورية التي أبرزها في تحليلاته، هو نتيجة أسلوب في "الإنتاج" شاذ، (نتيجة "مذهب في المعاش غير طبيعي")، يختلف عن أساليب الإنتاج التي تحدث عنها ماركس، بما فيها ما أسماه بـ"النمط الآسيوي للإنتاج". ولذلك كان النظام الاجتماعي الناشئ عنه يختلف عن الأنماط التي عرفها التاريخ حسب الماركسية: (المشاعية البدائية -مجتمع العبيد -النظام الإقطاعي -النظام الرأسمالي -النظام الاشتراكي). وقبل أن نشرح مفعول هذا التناقض، وانعكاساته على تجربة الحضارة العربية الإسلامية، وامتداداته إلى الواقع العربي الراهن، علينا أن نوضح أولاً، وبإيجاز، ما نقصده مما أسميناه: "أسلوب الإنتاج القائم على الغزو".