هناك الآن تحرك هادئ يمضي قدماً في أوروبا، بهدف إقناع الرئيس الأميركي القادم بتكليف كولين باول الجنرال، ورجل الدولة الأميركي البارز ، بالمهمة الصعبة المتعلقة بإحياء عملية السلام في الشرق الأوسط بين الإسرائيليين والفلسطينيين، والتي أوشكت على لفظ أنفاسها الأخيرة. غير أن هذه الفكرة التي نوقشت بشكل سري من قبل دبلوماسيين أوروبيين متنفذين، لم تكتسب بعد دعماً رسمياً. ومن الواضح أن خروجها للنور سيعتمد على ما إذا كان باراك أوباما، سيفوز بانتخابات الشهر المقبل الرئاسية في الولايات المتحدة أم لا. على أية حال، يمكن القول إنه من غير المتيقن حتى الآن ما إذا كان الجنرال باول الذي خدم كرئيس لهيئة الأركان المشتركة، وكوزير للخارجية الأميركية من قبل، سيقبل بلعب دور في سلام الشرق الاوسط. لا يحول دون القول بإنه من المعترف به على نطاق واسع أنه في مقدور رجل في مكانة باول وتاريخه، أن يقدم دعماً كبيراً لرئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، مبعوث اللجنة الرباعية الدولية، والذي يحاول جاهداً بناء المؤسسات التي ستحتاجها الدولة الفلسطينية إذا ما قامت، ويواجه في ذلك عقبات كبيرة. ويستطيع بلير وباول أن يشكلا معاً فريقاً قوياً قادراً على لعب دور مؤثر في هذا الصدد. فباول يتمتع بأمكانيات عديدة تجعل منه رجلاً مناسباً للاضطلاع بتلك المهمة. فهو من ناحية يحظى بالاحترام في إسرائيل، كما يتفهم الاحتياجات الأمنية للدولة اليهودية.ومن ناحية أخرى، يدرك جيداً مدى حاجة أميركا لإعادة بناء الجسور مع العالمين العربي والإسلامي. ومن المعروف أن الصراع العربي- الإسرائيلي يحظى بمكانة متقدمة على أجندة السياسة الخارجية لأوباما. وإذا ما انتخب الأميركيون أوباما فسوف يرث وضعاً مؤسفاً، مؤداه أنه لم يتم إحراز تقدم من أي نوع على جبهة السلام بين العرب والإسرائيليين منذ مؤتمر قمة "أنابوليس" في نوفمبر الماضي. فالزيارات العديدة التي قامت بها وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس إلى المنطقة منذ ذلك الحين، لم تسفر عن تحقيق أي تقدم في هذا المجال، بل ويمكن القول إن الأوضاع هناك قد انتكست: فلا تزال هناك العديد من نقاط التفتيش الأمنية الإسرائيلية في مختلف مناطق الضفة الغربية، بل إن عدد تلك النقاط قد زاد عما كان عليه منذ عام مضى. إضافة لذلك لم يتم تفكيك أي مستوطنة من المستوطنات غير الشرعية التي أعلنت إسرائيل غير مرة أنها ستزيلها بل إن عدد تلك المستوطنات قد زاد إلى حد كبير، كما زاد معه عنف المستوطنيين ضد الفلسطينيين - كما يتضح مما يحدث أثناء موسم حصاد الزيتون الحالي- في ظاهرة قبيحة لم تتمكن إسرائيل حتى الآن من كبحها. وهناك موضوع آخر يدعو للقلق، وهو انتشار دعاية الجناح الديني اليميني في الجيش الإسرائيلي بتشجيع من كبير الحاخامات الإسرائيليين العسكريين العميد " أفيحاي رونسكي"، وهو ما دعا صحيفة "هآرتس" اليسارية للتحذير مما وصفته بـ "تهديد داخلي خطير"، وذلك في مقال نشرته الأسبوع الماضي جاء فيه"لا يجب بحال السماح للحاخامات بالتدخل في شؤون الجيش، والتأثير على عقول وقلوب الشبان الذين يمضون مدة الخدمة الإجبارية... لأن إسرائيل يسودها قانون ديمقراطي وليس قانون ديني". والاضطراب الحادث حالياً في الحقل السياسي الإسرائيلي لا يخدم عملية السلام في الشرق الأوسط، وخصوصاً بعد أن اعترفت "تسيبي ليفني" رئيسة حزب "كاديما" وهو من أحزاب الوسط، والتي كان الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز قد كلفها بتشكيل الحكومة، بفشلها في إنجاز مهمتها، حيث لم تتمكن من حشد أغلبية فعالة داخل الكنيست، وهو ما يرجع إلى حد كبير إلى رفض حزب "شاس اليميني" المتطرف الانضمام إلى الائتلاف إلا بالشروط التي وضعها، والتي كان يصعب على ليفني قبولها، ومنها على سبيل المثال مطالبته بعلاوات كبيرة على المرتب لإنجاب الأطفال، وإصراره على ضرورة تعهد ليفني بعدم التفاوض مطلقاً مع الفلسطينيين حول مصير القدس في المستقبل. ويقول الخبراء إن فشل "ليفني" يشير إلى الضعف الخطير الذي يعاني منه معسكر السلام في إسرائيل. هناك في الوقت الراهن خيار أمام الرئيس "بيريز": فإما أن يعمد إلى تكليف شخص آخر بالمهمة الشاقة الخاصة بتشكيل الحكومة أو- وهذا هو الاحتمال الأرجح- أو أن يعطي موافقته على إجراء انتخابات عامة مبكرة في العام الجديد. وفي الحالة الأخيرة، فإن إيهود أولمرت، رئيس الوزراء الإسرائيلي المغادر، سيظل في منصبه لتصريف شؤون الدولة إلى أن يحين موعد إجراء الانتخابات. تشير نتائج استطلاعات الرأي، إلى أن "بنيامين نتانياهو" رئيس حزب "الليكود" اليميني، في وضع قد يمكنه من الفوز بالانتخابات. ونظرا لأن نتانياهو معروف عنه معارضته الصلبة لإقامة دولة فلسطينية، فإن مستقبل عملية السلام سوف يغدو قاتماً إذا ما فاز في الانتخابات القادمة. في المعسكر الفلسطيني، لايوجد لدى الرئيس محمود عباس الكثير مما يمكن أن يقدمه كنموذج لما تمكن من إنجازه خلال فترة الخمس سنوات الماضية التي تولى فيها الحكم: فهو لم يكسب أي تنازل -من أي نوع من الإسرائيليين - كما أن حركته الوطنية منقسمة على نفسها جغرافياً وسياسياً، أما "حماس" خصمه اللدود، فكانت المنتصر الوحيد، ولم يعد الآن بمقدور أحد سواء في إسرائيل أو في "فتح" تحدي "حماس". فعلى الرغم من أن وقف إطلاق النار قد جلب فترة راحة من العنف لسكان الجانبين، فإنه أدى من ناحية أخرى إلى ازدهار ما يعرف بالاقتصاد البديل في غزة، بسبب استمرار تدفق الأسلحة والبضائع الشحيحة، عبر العديد من الأنفاق التي أقامها الفلسطينيون بين القطاع ومصر، وفرض "حماس" لضرائب على تلك المهربات، تحصل منها على المزيد من الأموال التي تزيدها قوة، حتى وإنْ تحقق ذلك على حساب المعاناة الهائلة لسكان القطاع المحاصرين. وهذا الوضع المتفجر غير قابل للاستمرار بالطبع، وسيكون الرئيس الأميركي القادم بحاجة لمعالجته، وطالما أن الأمر كذلك، فإن الرئيس الأميركي الجديد يمكن أن يجد ضالته في كولين باول" باعتباره الرجل الذي يمتلك القدرة على حل الوضع المتأزم بالمنطقة ودفع الأمور فيها في الاتجاه الصحيح.