تردد صفير الاستهجان في مدرجات ملعب "ستاد دو فرانس" أثناء عزف النشيد الوطني الفرنسي قبل انطلاق المباراة التي جمعت بين المنتخبين الفرنسي والتونسي في 14 من شهر أكتوبر الجاري ليثتير عاصفة سياسية هوجاء، أطلقت العنان لجدل واسع وردود فعل تراوحت في حدتها بين الانتقاد الشديد وبين الدعوة لعدم تحميل الحادث أكثر مما يحتمل، وتجاوزه بأسرع وقت ممكن. والمشكلة أن السجال حول ما جرى أخذ أبعاداً أكبر عندما دعا الرئيس نيكولا ساركوزي في اليوم التالي إلى اجتماع مع مسؤولي الاتحاد الفرنسي لكرة القدم، وذهب رئيس الحكومة "فرانسوا فيون" إلى أبعد من ذلك عندما قال إنه كان من الأفضل إلغاء المباراة من الأساس قبل أن تبدأ بعد اتساع موجة الصفير في جنبات الملعب. ومع ذلك لا يمكن أبداً إلقاء اللوم على الاتحاد الفرنسي لكرة القدم وتحميله مسؤولية ما جرى لأنه في الحقيقة اتخذ جميع الاحتياطات اللازمة. فقد صنفت المباراة على أنها "ودية" منذ البداية، واختيرت مواطنة فرنسية من أصل تونسي لترديد كلمات النشيد الوطني الفرنسي، وفي سابقة أيضاً وقف الفريقان جنباً إلى جنب خلافاً لما جرت عليه العادة بأن يدخل الفريقان منفصلين إلى الملعب، والأهم من ذلك كله أنه لم يسجل أي انفلات أمني حتى بعدما سجل اللاعب ذو الأصول المغاربية "بن زيما" هدفاً وظل الجمهور منضبطاً وبعيدا عن ساحة الملعب. هذا ولم يكن بمقدور الاتحاد الكروي رفض بيع التذاكر للمشجعين من أصول مغاربية، أو تخصيص شرطي لكل واحد منهم لضمان السير العادي للمباراة، وهو ما يجعل الاتحاد الكروي الفرنسي في النهاية ضحية أكثر من كونه مسؤولاً عن الصفير الذي أطلق في الملعب. وبالطبع تتداخل في الجدل الذي ترتب على الحادث قضايا مختلفة لا تقل تشويشاً عن الصفير نفسه، وسلط عليها الأضواء الكاشفة وفي مقدمتها قضايا احترام الرموز، والاندماج والعنصرية والهوية الوطنية، وهي القضايا التي غذت النقاش وأججته. لكن الفريق الفرنسي الذي كان يلعب فوق أرضه ضد منتحب بلد أجنبي، وفي ملعب يحمل اسم فرنسا، وجد نفسه في وضع غريب محوط بأكثر من 70 ألف متفرج جاءوا بكثافة إلى الملعب ليشجع أغلبهم الفريق الخصم. وربما الأكثر غرابة من ذلك أن الجمهور كان جله من الفرنسيين، أو من المقيمين فوق التراب الفرنسي، إذ لم تسجل رحلات جوية من تونس تحمل مشجعين لفريقها ليظل الملعب حكراً على الفرنسيين. فمن أطلقوا الصفير إذن أثناء عزف النشيد الوطني كانوا في أغلبهم شباناً فرنسيين من أصول تونسية بعيدين كل البعد عن تونس التي لم يروها قط. غير أن ما جرى يؤشر على وجود انقسام في هوية هؤلاء الشباب بين فرنسا وتونس، فهم في العادة يشجعون ودون تفكير المنتخب الفرنسي عندما يلعب مع فريق أجنبي، إلا أن هذا المبدأ يتزعزع عندما يكون الفريق المنافس هو تونس تحديداً التي تخفق قلوبهم لها وينحازون إليها دون قيد أو شرط. وبهذا المعنى يمكن القول إن هؤلاء الشباب يتقمصون هويتهم الفرنسية ويعيشونها على نحو طبيعي في حياتهم اليومية، لكنهم يتحولون إلى تونسيين لدى أي مواجهة بين وطنهم الحالي وبلدهم الأصلي الذي ينحدرون منه. ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى مجموعة من الدوافع المختلفة ذات الجذور المتنوعة التي تفسر لنا هذه الحادثة، ومنها الرغبة في تأكيد الشبان لأصولهم العرقية، والرغبة في التعبير عن استيائهم من سياسة الاندماج في المجتمع الفرنسي، وقد تكون هنالك أيضاً رغبة طبيعية في الاصطفاف مع المنتخب الضعيف ضد نظيره الأقوى. ولا ننسى كذلك مشكلة الفوارق بين الأجيال، حيث كان لافتاً إدانة الفرنسيين الأكبر سناً من أصول مغاربية للسلوك الأرعن الصادر عن الشرائح الشابة، ولربما كانت هذه الواقعة تقليداً لأحداث مماثلة جرت في السابق بعد أن تصرف الفرنسيون من أصول مغربية وجزائرية بنفس الطريقة في مباريات جمعت فرنسا مع هذين البلدين. والمشكلة، على بساطتها الظاهرة، تمثلت بالفعل في الصفير الذي قطع النشيد الفرنسي وألهب مشاعر المسؤولين السياسيين بعدما صدمهم الحادث ومسهم في الصميم، فهل كان من الأفضل إلغاء المباراة عندما بدأ الصفير والتشويش؟ الحقيقة أن إلغاء المباراة ربما كان دواء مخففاً، لكن نتائجه ستكون أمرّ بكثير من مواصلة المباراة، إذ على رغم قساوة الصفير وإهانته للمشاعر الوطنية، إلا أن الأمور لم تخرج عن السيطرة وظلت بعيدة عن العنف، في النهاية. وخلافاً لما يذهب إليه بعض المعلقين، لا تنطوي الحادثة على أي طابع استثنائي، لاسيما وأنه سبق في مباريات دولية أن أطلق الصفير أثناء عزف النشيد الوطني، لكن الاختلاف الوحيد أن الفريق الزائر هو من يتعرض نشيده الوطني عادة للصفير من قبل الجمهور، والحال أن فرنسا كانت تلعب على أرضها وتستضيف منتخباً أجنبياً. وفي هذه الحالة يصبح فعلًا من الصعب الانحياز إلى الفريق الزائر وتشجيعه على حساب الفريق المضيف من قبل جمهور يفترض أنه ينتمي إلى البلد الذي تجرى فيه المباراة، ولو اطلعنا على النموذج الأميركي لوجدنا أنه حتى عندما يلعب فريق من أميركا اللاتينية في الولايات المتحدة ويشجع الأميركيون من أصول لاتينية الفريق الضيف، إلا أنه لا أحد منهم يصفر ضد النشيد الوطني الأميركي، وهذا يعني بكل بساطة أن مسألة الاندماج لدى الأميركيين اللاتين لا تطرح بنفس الطريقة الموجودة لدى الفرنسيين من أصول مغاربية. يضاف إلى ذلك أن اللاعب "حاتم بن عرفة" ذا الأصول التونسية الذي لعب مع المنتخب الفرنسي خلال المباراة كان الأكثر تعرضاً لصفير الجمهور. هذا الجمهور نفسه الذي كان سيصفق له ويفخر بمساره الكروي في حال لو كان المنتخب الفرنسي يواجه فريقاً آخر عدا المنتخب التونسي. لكن ونحن ننظر إلى الحادث بغير قليل من الاستياء علينا أيضاً كفرنسيين ألا نبالغ في إعطاء الموضوع أبعاداً أكثر مما يستحق لأن ذلك سيمنح انتصاراً رمزياً لمن أطلقوا الصفير، كما أن وقف المباراة كان سيطرح إشكالات أمنية كبرى إذ كيف كان سيتم إخلاء الملعب بهدوء ودون التسبب في مشاكل ومواجهات؟ وماذا كانت ردة الفعل لو أن النشيد الوطني المعني كان لدولة أخرى فوق التراب الفرنسي؟ والملاحظ، في كل الأحوال، أن الصفير أعطى حجة إضافية للذين يدعون أن ذوي الأصول المغاربية، ليسوا فرنسيين مثل الآخرين ويسعون إلى تكريس التمييز ضدهم، وفي الوقت الذي أراد فيه هؤلاء الشباب التعبير عن استيائهم تجاه السياسات الرسمية للدولة الفرنسية جاء تصرفهم غير المسؤول ليفاقم المشكلة لا ليحلها.