في أبوظبي حيث كنت الأسبوع المنصرم، شاركت في الندوة المهمة التي نظمتها صحيفة "الاتحاد" حول الدين والمجتمع في العالم العربي" بحضور جمع متميز من كتاب الجريدة. وقد أحسنت الصحيفة صنعاً إذ خصصت منتداها السنوي لهذا الموضوع الحيوي، الذي كثيراً ما يعالج في الأدبيات العربية ببعض التسرع والسطحية. ومن الإشكالات المحورية التي يطرحها الموضوع ظاهرة التدين الجديد التي أثارت اهتمام الباحثين في المسألة الدينية، لا في سياق ما يطلق عليه "الصحوة الإسلامية"، وإنما ظاهرة الطفرة الدينية الشاملة التي لا يبدو أنها تخص ديناً بعينه. والشواهد عديدة على هذه الحالة: دعوة رئيس فرنسا نيكولا ساركوزي لمراجعة قوانين العلمانية التي ارتبطت عضوياً بقيام الجمهورية، وعودة الأرثوذكسية بقوة في روسيا الشيوعية سابقة بتشجيع واضح من الرئيس بوتين، وطغيان النزعة الدينية على الخطاب السياسي الأميركي في عهد الرئيس الحالي بوش، الذي لا يخفي أن الإنجيل هو دستوره وكتاب سريره.... و لم يفتأ الكثيرون يرددون الجملة التي تنسب للأديب والمفكر الفرنسي الأشهر أندري مالرو :"إن القرن العشرين سيكون قرن الدين أو لا يكون" ويجدون في الوقائع العينية تصديقاً لهذه العبارة. بل إن العديد من علماء الاجتماع والإنثروبولوجيا بدأوا بالفعل مراجعة الأطروحة "الفيبرية" الشهيرة (نسبة إلى ماكس فيبر)، التي اعتبرت الخروج من الدين ملازماً لنهج العقلنة الذي يطبع الحداثة. ومن هؤلاء عالم الاجتماع الأميركي "بيتر برجر"، الذي ذهب في دراسة مستمدة من برنامج بحثي واسع حول الدين والسياسة في المجتمعات المعاصرة، إلى أن العلمانية استثناء ضيق في السياق البشري لا يتجاوز البلدان الأوروبية وبعض النخب المتغربة، مستخلصاً أن للدين أياماً جميلة تنتظره. أما عالم الأنتربولوجيا الأميركي "جيرتز"، الذي كتب دراسات مهمة حول المجتمعات الإسلامية، فيذهب إلى أن المسألة الدينية "موضوع مستقبل"، وليست من مخلفات الماضي. وينتقد "جيرتز" بشدة نظريات العلوم الإنسانية الغربية المتأثرة بالنموذج التطوري في دراستها للدين من حيث هو تجربة سائرة للانحسار بفعل ديناميكيات الحداثة الأربعة :العلمنة والنزعة القومية والعقلنة والكوكبة. ويرى أن هذا التصور يصدر عن نزعة مركزية أوروبية تغفل حقائق وظرفيات المجتمعات الجنوبية، التي لا يزال فيها الدين مرتكز الهوية وعماد الثقافة المشتركة، ولا تشعر بالحاجة للقطيعة معه ثمناً لحداثتها. إلا أن الحقيقة أن ما يطلق عليه بالصحوة الدينية مسار معقد، يخفي معطيات عديدة، شديدة الالتباس تقتضي وقفة مراجعة دقيقة نذكر أربعة منها: أولًا: أزمة المؤسسة الدينية أي شبكات تقنين وصياغة المواقف الاعتقادية الجماعية. فهذه الأزمة حقيقة راسخة، لئن كانت جلية في المجتمعات المسيحية الغربية، التي انتكست فيها الممارسة الشعائرية إلى حدود شديدة التدني (تقدر بمعدل 13بالمائة في الدول الأوروبية الغربية) فإنها مست بقية المجتمعات بما فيها المجتمعات المسلمة. فالدين لم يعد يشكل الأرضية المرجعية للقيم الجماعية في الغرب، بل تحول إلى دائرة المعتقدات الفردية التي لا تتجاوز حدود التجربة الإيمانية الضيقة. فالكنائس الكبرى فقدت تحكمها في تسيير المسارات الاعتقادية، حتى لو تعلق الأمر بأقوى الكنائس وأكثرها تنظيماً(الكنيسة الرومانية الكاثوليكية). ولا يعني هذا الأمر أن نسبة التدين نفسه قد تقلصت، بل إن الاستطلاع الواسع الذي قام به عالم الاجتماع "فردريك لنوار" في كتابه المهم "تحولات الرب " تبين أن نسبة الإيمان والعلاقة بالمطلق لم تتقلص في المجتمعات الغربية، وإنما الذي حدث هو أن الديانات المؤسسية القائمة لم تعد قادرة على استيعاب التطلعات الدينية للأفراد. وقد حدث الأمر نفسه بخلفية مغايرة في المجتمعات المسلمة، التي انتكست فيها المؤسسة الدينية التقليدية، وظهرت فيها موجات من التدين خارج نطاق تحكم المذاهب والمرجعيات القائمة. ثانيا: أثر مسار التحديث على الوعي الديني، باعتبار أن الدين تجربة تأويلية مستمرة تؤثر فيها حركية التحديث بما تقتضيه من علاقة جديدة بالنص والحياة. فإذا كانت الموجة الأولى من الحداثة لازمتها نزعة عدائية للدين بلغت مداها في الأيديولوجيات الوضعية والتاريخانية التي اعتبرت الدين وعيًا زائفًا ومرحلة من مراحل طفولة الإنسانية، فإن الموجة الراهنة أصبحت أكثر انفتاحاً على الدين بصفته تجربة إنسانية ثابتة وفضاء رحباً للدلالة. وفق هذا المنظور، يرى الفيلسوف الايطالي "جاني فاتيمو"، الذي هو أحد أبرز مفكري تيار ما بعد الحداثة أن انهيار الميتافيزيقا التي شكلت طيلة قرون المنافس - الحليف للدين سيفتح آفاقاً رحبة للتدين بخلفيات وتجارب جديدة متلائمة مع روح العصر، ومنفصمة مع تركة الاستبداد والأحادية، التي طبعت ممارسة المؤسسة الدينية في العصور الوسطى. ثالثا: ظاهرة امتزاج وتنقل المسارات الدينية التي شكلت ما دعاه "جان كلود غلبو" في كتابه الأخير "بداية عالم" بـ"عولمة الديني" الناتجة عن عوامل ثلاثة تطبع العولمة اليوم هي: انمحاء الحدود والحواجز الإقليمية، والتأثيرات المتبادلة، وتكثف حركة الهجرة. فالمسيحية مثلًا انتقل قلبها من أوروبا إلى أفريقيا وآسيا، والدين الأكثر انتشارا اليوم هو الطائفة الخمسينية البروتستانتية التي تتقدم على الملل العريقة، وللإسلام والبوذية انتشار كثيف ومتسارع في أوروبا وأميركا. وقد عبر عن هذا التحول الكاتب الكاميروني "غاستون كلمان" بلغة ساخرة ، قائلا "لقد دفعني البيض لاعتناق المسيحية في الوقت الذي لم يعودوا مقتنعين بها". رابعاً: الانفصام بين الدين والثقافة، الذي هو من ثمار العلمنة، لكن نتيجته الملموسة هي بروز العامل الديني في حضوره المتجرد المنكشف. ويقف "أوليفيه روا"، الخبير الفرنسي المعروف في الشأن الإسلامي عند هذه الظاهرة في كتاب صدر هذه الأيام بعنوان "الجهل المقدس: زمن الدين بدون ثقافة". فبالنسبة له فرضت العلمنة الدين على الانفصال عن الثقافة، وبالتالي أرغمته على التميز والتقوقع في مجال خاص لا يلتبس بالسياسة ولا يهيمن على الشأن العام. ولئن كان الدين قد خسر في هذا التحول سلطته وقبضته القوية، إلا أنه أصبح أكثر وضوحًا وتميزًا، ومن هنا دور الحركات الأصولية في دفع مسار العلمنة بطريقة غير مقصودة ما دامت ساهمت في نزع القداسة عن الدين، وتحويله إلى أداة من أدوات الصراع السياسي . يتبين من هذه المعطيات الأربعة أن مفهوم الصحوة الدينية يحجب أكثر مما يكشف تعقد وتشابك رهانات المسألة الدينية في المجتمعات المعاصرة.