إن أصعب ما يمكن تحليله في إدارة بوش، هو أن بعض الأشياء تظل صحيحة حتى وإن آمن بها بوش! وعند تقصي خطوات الإدارة الحالية، على صعيد سياساتها الداخلية والخارجية معاً، في مسعى لمعرفة أين كان الشطط والخبول، وأين تكمن الحقائق، حتى وإن آمن بها بوش، فقد واجهت تحدياً عظيماً في ذلك، لاسيما ونحن في قلب دوامة الأزمة الاقتصادية الراهنة. وقد شعرت بقوة هذا التحدي بصفة خاصة، وأنا أستمع إلى كل من بوش ووزير خزانته هانك بولسون، وهما يعلنان أن الحكومة ستكون من بين المساهمين الأساسيين في البنوك الأميركية الكبيرة. وكانا مترددين في اتخاذ هذه الخطوة سابقاً. وهذا ما يدعو لمواجهتهما الآن بالقول: وماذا تتوقعان من شخصين رأسماليين يمقتان أشد المقت، أي شكل من أشكال تدخل الدولة في الأسواق؟ على أن السؤال الذي يدور في ذهني - مثلما يدور في ذهن كل من بوش وبولسون- هو: وماذا سيفعل هذا التدخل الحكومي بشأن المخاطرة المالية التي هي من صميم الرأسمالية نفسها؟ وفيما أعلم فإن هناك شعرة دقيقة للغاية تفصل بين المخاطرة والطيش. ففي حين تدفع المخاطرة باتجاه الابتكار والإبداع، يدفع الطيش نحو السقوط من الجرف الجبلي الشاهق. وخلال السنوات الأخيرة الماضية، كان لبلادنا نصيب وافر من الطيش. وها نحن ندفع ثمنه فادحاً الآن، ولابد من تصحيح ما اعترى نظامنا ومؤسساتنا المالية من خلل. لكن كيف لنا أن نصحح الخلل دون أن نكون شديدي الحذر من المخاطرة، خاصة وأن الاستثمارات الناشئة والاقتصادات الجديدة النامية، عجزت عن الحصول على ما يلزمها من رأسمال، بسبب تزايد حذر البنوك والمؤسسات المالية التي تساهم فيها الحكومة من تمويلها؟ ولكي تتضح الصورة أكثر، دعنا نتخيل المشهد التالي: لنفترض أنك رئيس أحد البنوك التي تملك الحكومة أسهماً كبيرة فيها. وفي يوم من الأيام جاء إلى مكتبك خريجان اثنان جديدان من جامعة ستانفورد، يدعى أحدهما لاري والآخر سيرجي. وكانا يرتديان بناطيل الجينز والـ"تي شيرت". فيخبرانك عن تطويرهما لمحرك بحث إلكتروني اسمه "جوجل"، ويطلبان منك طباعة أي كلمة أو عبارة في خانة البحث ثم الضغط على زر كتبت عليه عبارة "يحالفني الحظ"، فإذا بعشرات المواقع الإلكترونية ذات الصلة بالعبارة أو الكلمة التي طبعتها تنسدل أمامك. لكن المشكلة أن رأس المال الذي بدآ به مخاطرتهما الإلكترونية المبتكرة هذه قد نفد، وها هما الآن بحاجة ماسة إلى قرض مالي يمكنهما من الاستمرار فيها. فماذا أنت قائل للاري وسيرجي بصفتك رئيساً لبنك تملك الحكومة فيه أسهماً كبيرة؟ أخمن أن إجابتك ستكون كالتالي: هذه فكرة عظيمة يا شباب، لكني اليوم أتحمل مسؤولية إدارة بنك تملك الخزانة الأميركية أسهماً كبيرة فيه. وإذا ما ظننتم أنني سأخاطر بتصديق قرض مالي لشيء جديد اسمه "جوجل"، فأنتما مخطئان... مخطئان. فماذا أنا قائل أمام جلسة استماع مالي أمام الكونجرس، فيما لو لم يحالفكما الحظ في استثمار القرض الذي حصلتما عليه من البنك؟ لكن ماذا يحدث إذا ما اتصل بك في اليوم التالي مباشرة، عضو بالكونجرس من "بالو ألتو"، وتصادف أن كان هو نفسه عضواً بلجنة البنوك التابعة لمجلس النواب، فوبخك على رفضك لطلب القرض الذي تقدم به لاري وسيرجي، علماً بأن عضو الكونجرس يمثل الدائرة الانتخابية التي ينتميان إليها، وقال لك: لم يحالفني الحظ معك بالأمس؟ ربما لا يحدث شيء من هذا مطلقاً في الواقع، فهو مجرد أخيلة من عندي... لكن من يدري؟ هذه هي الملاحظة نفسها التي أكدها "ديفيد سميك" الاستراتيجي والمخطط المالي. أرجو ألا يساء فهمي ويعتقد البعض أنني أنتقد قرار الإدارة بإنقاذ البنوك من خطر الانهيار المالي. إلا أن علينا تفادي الطيش المالي وتوفير الضمانات غير المسؤولة للرهن العقاري، والإنفاق المغامر الذي أطلق العنان لهذه الفوضى المالية التي نواجهها الآن. وفي حين تزداد حاجتنا اليوم لتنظيم مؤسساتنا المالية، فإننا بحاجة إلى إدارة مالية أفضل بالتأكيد. فالملاحظ أن البنوك الناجية من عاصفة الأزمة، أي تلك القوية القادرة على شراء البنوك الأخرى -مثل "جي بي مورجان جيز"، و"بانكو سانتاندر"- لم تنج لكونها الأفضل تنظيماً، وإنما نجت بفضل حسن إدارتها. والحقيقة أن القائمين على أمرها وإدارتها، كانوا أشد حرصاً ويقظة لمدى تعرض مؤسساتهم للمخاطرة، من أي لوائح أو نظم مصرفية طولبوا بتطبيقها. خلاصة القول: إن علينا ألا نضيق خناق التنظيم على الأسواق بسبب شططها في المخاطرة المالية. فالمخاطرة هي من طبيعة السوق وعمله أصلاً. كما أن علينا أن نصحح أخطاء الرأسمالية، وليس تبديلها بنظام اقتصادي اشتراكي. ما يدعوني إلى هذا القول، هو إدراكي لحقيقة أنه لن يكون في وسعنا شق طريقنا للخروج من هذه الأزمة، إلا بمزيد من الابتكار والإبداع الإداري الاستثماري... فهما القادران على خلق مزيد من الوظائف والاستثمارات. ولنسلط جهودنا على إنقاذ النظام المالي وابتكار نظم ذكية تحكم عمله، مع تسريع انسحاب الحكومة من القطاع المصرفي بأسرع ما يمكن، حتى تعود البنوك لمزاولة نشاطها بحرية تامة وبعيداً عن التدخل الحكومي. فالمطلوب هو عودة الأسواق إلى المخاطرة... لكن دونما غلو أو شطط.