في 13 يوليو سنة 1982 اقتربت جداً القوات الإيرانية من ميناء البصرة العراقي، كعلامة خطر عالي المستوى لوحدة الأراضي العراقية وسلامة نظامها آنذاك. لم يكن الوضع العسكري والسياسي وقتها مريحاً جداً للقيادة العراقية، كما لم يكن مريحاً بالتأكيد لبعض العرب وخاصةً أهل الخليج منهم، فمعنى ذلك أن إيران وقواتها المثارة عقائدياً في تلك السنوات يمكنها أن تجد الطريق سالكاً ليس إلى البصرة فقط بل إلى بغداد، إلا أن تطورات سياسية وعسكرية لاحقة غيرت من تلك النظرة المتشائمة إلى ما يشبه الاستنزاف لكلا الجانبين، مما أدى في النهاية إلى وضع لا غالب ولا مغلوب سياسياً وعسكرياً، ومغلوب اقتصادياً وإنسانياً لكل الأشقاء في الإسلام. في ذاك الصيف اللاهب مناخياً وسياسياً تعمقت فكرة مجلس التعاون الخليجي الذي وُضعت لبناته قبل ذلك بسنة تقريباً. كان المجلس بالفعل ملاذاً آمناً عبر خطوات إنشائه السريعة ضد التطورات شديدة الخطورة على الجبهة العراقية- الإيرانية. كان ذاك المجلس الذي لا يزال يحمل المسمى نفسه، يهدف إلى تقوية العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي ونقلها من حالة وشائج القربى التقليدية، إلى مؤسسة إقليمية تحمل صفة غرفة الطوارئ للأزمات التي يمكن أن تحيق بالإقليم، الذي يحوي ثلثي مخزون العالم البترولي، إلى جانب التنسيق المتعارف عليه في الشؤون التربوية والاقتصادية والصحية.. إلخ. وأنا أكتب هذا المقال في (2008/10/18) مر على نشوء أزمة أسواق المال التي يُشبهها البعض بتسونامي اقتصادي عالمي، ما يقارب الشهر دون أن يكلف وزراء الجانب الاقتصادي في مجلس التعاون أنفسهم عقد جلسة طارئة واحدة للمجلس لمناقشة التدابير اللازمة لمجابهة كساد اقتصادي دولي غير مسبوق، متزامناً مع انهيارات أسعار البترول.. وهو الشريان الرئيسي لبلداننا! ما الفرق بين خطورة الوضع الذي شكلته مليشيات الثورة الإيرانية، التي كانت تنوي إسقاط بغداد وما بعد بغداد في أوائل الثمانينيات، وبين خطورة مليشيات الأرقام التي تُساقط ثرواتنا في أسواقنا المالية الخليجية، والمتأثرة من الحالة المأساوية لجند المال المهزومين في "وول ستريت" والأسواق العالمية الأخرى؟ في رأيي أن النتيجة واحدة وإن اختلفت الوسائل والأزمنة والأسماء: النتيجة متشابهة إن نحن علمنا أن الهدف المعلن الفاشل -بصعوبة- قبل ستة وعشرين عاماً، والوضع المشوش والمتوفر حالياً سيفضيان سوياً لو تحقق الأول واستمر الثاني في تفاقمه، إلى زعزعة الأمن الشامل لبلداننا الخليجية، الذي يعني جيوشاً تُهزم مثلها مثل أسواق تُفلس ومجاميع لا حصر لها من البشر في هذا الإقليم تسخط على قطع الأرزاق الذي يعادل قطع الأعناق! أميركا أم الأزمات عُقدت فيها عشرات الاجتماعات الحكومية المصغرة، وبين تلك اللجان ومجلس الشيوخ والنواب هناك، بل إن الرئيس بوش طلب من المترشحين للرئاسة من الحزبين "الجمهوري" و"الديمقراطي" الاجتماع بحكومته الاقتصادية المصغرة لمناقشة الأزمة. الاتحاد الأوروبي فعل ذلك مراراً في باريس وبروكسل، ومع ممثلي هذا الاتحاد والحكومة الأميركية في كامب ديفيد، والأمر نفسه قام به وزراء المال والاقتصاد في الدول الصناعية وشبه الصناعية في آسيا، وكذلك فعل الأفارقة وهم يعرفون أنهم متضررون من الرواج والكساد الاقتصادي على حد سواء! لماذا تمت كل هذه الاجتماعات الطارئة وحرمنا مجلسنا الخليجي من إتمام مثلها؟ هناك احتمالات: إما أن وزراء المال والاقتصاد والنفط الخليجيين تدارسوا الوضع من وراء الكواليس واتخذوا إجراءات بعد ذلك، وهذا إن حدث فعلاً، فهذا أمرٌ غير صحي على الإطلاق، فالأسواق تحتاج ليس إلى اتخاذ التدابير فقط إن نحن سلمنا بمقولة أن دولنا الخليجية لا تشتكي من أزمة السيولة، بل تحتاج إلى أنـهُر من محاولات إعادة الثقة لتلك الأسواق، عبر بيانات وتصريحات متتالية من الوزراء المختصين. لقد ظهر للإعلام وزير الخزانة الأميركي حوالي 20 مرة خلال أسبوعين فقط من بداية الأزمة، ليُعطي فكرة عن خطة الإنقاذ والوضع القائم هناك. احتمال آخر: يعتقد وزراء المال والاقتصاد في خليجنا أن المشكلة الائتمانية الدولية ما هي إلا عاصفة في فنجان، وستخمُد عاجلاً، فلذا لا داعي لعجلة الاجتماعات والقرارات، لكن الواقع يقول إن العاصفة تلك في أوج عنفوانها وشبابها بدليل ما نقرأ من تصريحات للمسؤولين في البلاد التي انطلقت منها العاصفة المالية المدمرة. احتمال أخير: شعور الوزراء المعنيين بأن أزمة المال العالمية الحالية لا علاج لها إلا بجعلها تمرُّ آخذةً معها الأبنية الهشة وأحلام الكثيرين على أمل إصلاح الأضرار فيما بعد.. إن كان هناك بعد! مجلس التعاون الخليجي، ثلاث كلمات لا يختلف اثنان على مفاهيم الأولى والثالثة منها، أما الثانية الوسطى فالأمر متروك للحكم العام.