يجري الحديث في العراق ولبنان والسودان والصومال ومصر وفي دول عربية أخرى يتشكل مواطنوها من مجموعة متباينة من الأعراق أو الطوائف أو الديانات المختلفة، حول حقوق الأقلية وأحياناً حقوق الأغلبية، ونسي الجميع أو تناسوا أنهم في النهاية مواطنون لدولة واحدة يعيشون تحت سقفها وفي ظلها وفيها يمارسون حياتهم جنباً إلى جنب. ربما يشعر بعض المواطنين في كثير من دول العالم بوجود حائط يرتفع يوماً بعد يوم يفرِّق بين المرء وحقوقه، ينجم عادة عن ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية وحياتية أو معيشية معيَّنة تواجهها الدولة والمجتمع، تدفع بالحكومات إلى التفرقة بين عناصر نسيج المجتمع، ولكن هذا لا يسمح بأي حال أن تكون هذه التفرقة سبباً لمصادرة المواطنة. ولكننا يجب ألا ننكر أن أنظمة متسلطة وديكتاتورية مثل نظام صدام حسين في العراق، أوجدت الفرقة بين أبناء الوطن الواحد على أسس دينية وطائفية، فكان معظم مقربيه والعاملين في مؤسسات الدولة من الأقلية السنية المسلمة، فزرع بذور الفتنة وعدم الثقة بين طوائف المجتمع العراقي ليدفع الثمن من دمائه واستقراره وأمنه حالياً، ولن يكون وضع مسيحيي العراق الآن نهاية الفتنة. كثير من الحكومات في العالم لا تدرك ما تفعله بشعوبها عندما تهتم بطائفة وتمنحها كل شيء على حساب الطوائف الأخرى بزعم الولاء والثقة، حيث يكون رد الفعل المتوقع دائماً هو الانشقاق وضعف بنية المجتمع وعدم قدرته على حماية الأمن الوطني، ويتقاعس الجميع عن خدمة الوطن بإخلاص وتفان. وإذا انتقلنا إلى لبنان، وهي الدولة العربية التي كانت تتباهى بديمقراطيتها، نجدها أصبحت اليوم محل صراع بين مواطنيها، كلٌ يريد أن يقتطع منها جزءاً، ويستأثر بالسلطة دونما اعتراف بحقوق الآخرين في وطن للجميع، ما أدى في النهاية إلى خسائر اقتصادية وسياسية كبيرة يدفع ثمنها جميع المواطنين. وتنظيمات التطرف الإسلامي، التي تعتبر نفسها الوريثة الوحيدة للوطن في السودان والصومال والجزائر والمغرب وموريتانيا، تقوم بمصادرة حقوق باقي المواطنين، حتى حقهم في الحياة، وتنصب نفسها خصماً وحكماً وجلاداً ضد كل من يختلف معها في الرأي أو الرؤية أو الدين، ومن ثم يجري اقتسام الوطن بين المواطنين الذين هم في أشد الحاجة لتماسك الوطن ووحدته حتى يمكن تسيير الأمور وتنفيذ سياسات الإصلاح السياسي والاقتصادي، فانعدام الأمن والانشغال بفرض السيطرة والإرادة وتخوين المواطنين يكون دائماً لصالح القوى المتربصة بهذه الدول والمستعدة للانقضاض عليها حين تحين الفرصة أو التي يُسعدها أن تستمر حالة الفوضى الأمنية. كان البعض يعزو مشكلات الحدود وبث الفرقة بين أبناء الوطن الواحد لما قامت به القوى الاستعمارية وأذنابها في كثير من الدول العربية، ولكن بعد رحيل الاستعمار ازداد الأمر سوءاً، فلا هذه الدول استطاعت حل مشكلاتها الحدودية بالطرق السلمية، ولا هي أعادت اللحمة لنسيج مجتمعها على اعتبار أن الجميع مواطنون، واختفت من قاموس التعامل الإنساني مصطلحات مثل المساواة والعدالة والتسامح والدين لله والوطن للجميع، ولم تستطع أي من هذه الدول التوصل إلى معادلة تضمن تماسك المجتمع وسعيه للعمل تحت راية واحدة هي الغاية العليا للدولة، بل إن بعض فئات المجتمع لجأت إلى قوى خارجية لمساعدتها على الوقوف ضد حكوماتها. ماذا يحدث عندما يشعر الفرد بأنه فقد مواطنته أو أصبح مشكوكاً فيه وتجري معاملته على هذا الأساس؟ من المؤكد أن هناك تداعيات كثيرة لهذا الأمر من أهمها: * فقدان الشعور بالانتماء الوطني، مما يجعله يتهرب من خدمة الوطن في أي موقع يشغله، ويتهاون في أداء عمله، ويتوقع الأسوأ دائماً. * انتشار الفساد الإداري والرشوة، مما يؤثر على سياسات الدولة ويعرقل إنفاذ القانون، ويتيح الفرصة للقضاء على الكفاءات الوطنية. * تفشي الصراع بين عناصر تركيبة المجتمع للاستئثار بالسلطة والثروة بحق ودون حق، على حساب الجميع، مما يدفع المجتمع للسقوط في براثن الفتنة الطائفية أو العرقية أو المذهبية. * انتشار الكراهية بين أبناء الوطن الواحد، ومن ثم تتوارث الأجيال هذه الكراهية وتقود في النهاية إلى مرض الطائفية. * تراجع مناعة المجتمع ضد أي شائعات أو أفكار هدامة أو مضللة على حساب المصالح العليا للدولة. * اختزال المواطنة في البحث عن الحقوق وتناسي الواجبات، ومن ثم يصبح الصراع داخل الدولة للحصول على المكاسب والمزايا دون عمل حقيقي لصالح تنمية المجتمع والدولة. * السماح للقوى الخارجية أو جماعات المصالح باستغلال الوضع الداخلي لتأليب الطوائف والأعراق بعضها على بعض، وفرض أجندتها دونما اعتبار للمصالح الحيوية للمجتمع. * وقوع الدولة في مرحلة "الانفجار"، فأي حدث بين المواطنين مهما كان صغيراً أو محدوداً يشعل المجتمع ويشغله على أنه فتنة طائفية. * تزايد احتمالات تعرض الدولة لحروب أهلية أو صراعات داخلية عنيفة ومسلحة كلما سمحت الظروف بذلك. * دفع بعض الطوائف إلى الارتماء في أحضان الأعداء، مما يجعلها وسيلة ضغط بالوكالة على الحكومات، وليس أمر الطائفة الشيعية في كل من العراق ولبنان ببعيد. الخلاصة أن المجتمعات في هذه الحالة تفتقر إلى الأمن والأمان والاستقرار، فتنشغل الحكومات بالعمل على حفظ الاستقرار الداخلي والدفاع عن صورة الدولة الخارجية بعيداً عن توجهاتها الأصلية في التنمية الشاملة، فتتراجع المؤشرات الحيوية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية. كل هذا يقودنا إلى السؤال المهم: متى تشعر الأقليات العربية بمواطنتها؟ ورغم مشروعية السؤال فقد كان من الأجدى ألا يُطرح، فالمواطنون جميعاً شركاء في الوطن لا فرق بينهم سوى في السعي بكل جد واجتهاد لرفعة الوطن وتقدمه في أيٍّ من مجالات الحياة. ولكن مشروعية السؤال وإلحاحه في الوقت الراهن جاءا نتيجة لإصابة جسد بعض الدول العربية بأمراض الطائفية والعرقية، الأمر الذي يهدد بانقسامها وتقسيمها، لذا فإن الإجابة عن هذا السؤال تتركز في الآتي: * توافر العدالة الاجتماعية لجميع عناصر تركيبة المجتمع دون اعتبار لأي شيء سوى أنهم مواطنون. * عدم محاباة طائفة على أخرى ومعاملة الجميع سواسية دون تشكيك في وطنيتهم أو انتمائهم إلى أن يثبت العكس. * بث روح المواطنة والوطنية في نفوس المواطنين، وجعلهم متساوين في الحقوق والواجبات، ونشر الشعور بأن الوطن للجميع. * تجنُّب ما يثير الفرقة بين أبناء الوطن، سواء في التعيين في الوظائف العليا، أو في التعليم أو في خدمة العلم أو ممارسة الأنشطة الاقتصادية بأنواعها ومستوياتها المختلفة. * الحرص دائماً على أن تكون المصلحة العليا للوطن هي المرجعية الوحيدة لعمل كل المواطنين في ظلها بما فيها الحكومات المعنية، ومن ثم سرعة معالجة أي أخطاء أو حوادث قد ينجم عنها إدراك خاطئ أنها عمل طائفي، ما يثير أبناء كل طائفة ضد الأخرى. * أن تعترف الأقليات نفسها بأنهم مواطنون، وتكف عن الشكوى، وتعمل بإخلاص على إثبات مواطنتهم. لقد آن الأوان لوقفة مع الذات يعود فيها المجتمع في هذه الدول إلى رشده ويعترف بأن الجميع مواطنون، وأن التنمية ابن شرعي للأمن والاستقرار الذي يجب أن يسهم فيه الجميع دون استثناء فكلهم... "مواطنون"، ويجب أن نسلم بأن الوطنية مرتبطة بالمواطن أياً كان انتماؤه العرقي أو الديني أو المذهبي.