عندما كتب الأب جان كوربون في مطلع السبعينيات من القرن الماضي كتابَهُ عن "المسيحية العربية"، بدا له أنّ الأخطار الأربعة التي تهدّد المسيحية العربية والمشرقية هي: التبشير المسيحي -المسيحي، وقيام الكيان اليهودي على أرض فلسطين، والهجرة الكثيفة إلى ديار الغرب، والتهميش الذي ينالُ من أدوارهم ووجودهم لسببين: الموجة القومية العربية، ولا ديمقراطية الأنظمة القائمة. وما تزال هذه الأسباب موجودةً وإن اختلفت الأولويات، ولكنْ أُضيف إليها في مرتبةٍ متقدمةٍ: صعود تيارات التطرف الديني في قلب الإسلام. ثم إنّ أحداً ما عاد يذكر القومية العربية باعتبارها بين عوامل تهديد المسيحية العربية، أمّا فيما بين الأربعينيات والسبعينيات من القرن الماضي؛ فإنّ التأكيد على العامل القومي في الانتماء والحقوق السياسية، ترتّبت عليه إثارة حساسيات إثنية ودينية مُضادّة، وقد أضرّ ذلك بالوحدة المجتمعية العربية. لكننا لو تأمْلنا الأمر بدقةٍ أكبر لبدا لنا أنه حتى في هذا العامل (القومي)؛ فقد غَلَبَ الابتزاز السلطوي على الحساسيات الإثنية والدينية والاتهامات بمخامرة الأجنبي أو الاتفاق معه على الحكم الوطني القائم! فقد أفاد المسيحيون العرب بعامةٍ من بعض النواحي (وليس من كُلِّها) من دخول الغرب إلى الشرق. وأهمُّ تلك النواحي: التواصُل الذي سمح بظهور فئات حديثة ضمن المسيحيين مصالحَ ولغةً وقُدُرات على التوسُّط، إذا صحَّ التعبير. وعندما استولى الحكام العسكريون العرب على الأمور في خمسينيات القرن الماضي، وأقبلوا على تدمير ترتيبات المجتمع التقليدية بحجة التحديث، وعلى نهب الثروات الاجتماعية بحجة الاشتراكية، وعلى إلغاء الأدوار السياسية بحجة تصفية آثار الاستعمار؛ كان من ضمن اللغة السرية وأحياناًَ العلنية اتهام بعض المسيحيين العرب بالحُجج السالفة تمهيداً لنهبهم وإلغاء حقوقهم بوصفهم مواطنين أو إهمالها. بيد أنّ أهمَّ الأسباب فيما يحدُثُ للمسيحيين العرب منذ خمسين عاماً وأكثر هو الدخولُ الغربيُّ إلى الشرق ولا شكّ، ونَيْلُهُ من المسيحية العربية من الناحية الدينية أكثر مما نال من الإسلام والمسلمين من هذه الناحية! فالغربيون العلمانيون (الفرنسيون والبريطانيون ثم الأميركيون) ما سلَّموا للمسيحيين العرب بالمذاهب المسيحية التي هُمْ عليها. والمسيحيون العرب ينتمون إلى ثلاثة اتجاهاتٍ كبرى في الأصل: الأقباط، والأرثوذكس، والسريان. وينفرد السريان (وهم في بلاد الشام والعراق، ويُسمَّون في العراق: الكلدان) بالانقسام إلى عدة فِرَقٍ صُغْرى، أمّا الأرثوذكس ذوو التقليد البيزنطي، والأقباط (وهم أرثوذكس لكنّ لهم تقليداً خاصاً)؛ فإنهم منتشرون وموحَّدون وحتى أواسط القرن العشرين كان نُموّ أعدادهم مقبولاً. أقبل المبشِّرون المرافقون للمستعمرين، والذين كان بعضُهم قد وصل قبل المستعمرين عن طريق الإرساليات التعليمية، على دعوة المسيحيين المشرقيين إلى إحدى الديانتين الكاثوليكية أو البروتستانتية. واقترنت الدعوات التبشيرية بإغراءات المذهب الحقّ (وإلاّ لماذا قويت أوروبا المسيحية وقهرت المسلمين في حين ضُعف المسيحيون المشرقيون وتراجعت أعدادُهُم!)، والحداثة، والحماية السياسية من مظالم الدولة العثمانية. وخلال قرنٍ ونصف القرن أمكن للمسيحيات الغربية أن تُحدث انشقاقاتٍ عميقةً في صفوف المسيحيين العرب والمشرقيين. وذلك بإحدى ثلاث صِيَغ: الاعتناق الكامل لأحد الدينين البروتستانتي أو الكاثوليكي (اللاتين أو الإنجيليون) أو الانتماء عقدياً واجتماعياً إلى أحد الدينين مع الاحتفاظ بالتقاليد الأصلية في القُدّاس (روم كاثوليك، أرمن كاثوليك، أرمن بروتستانت، كلدان كاثوليك، نساطرة كاثوليك، سريان كاثوليك... إلخ). وفي كثيرٍ من الأحيان اقترنت التبعيةُ الدينيةُ الجديدةُ بالهجرة حتّى لو لم يرد المبشِّرون ذلك، رجاءَ الإفادة بالانضمام إلى أوروبا أو أميركا الناهضة. وقد ظلّت فكرةُ الهجرة من جانب المسيحيين باعتبارها حلاًّ لمشكلات العيش حيةً حتى اليوم، وقالها لي ربُّ أُسرةٍ فلسطينيةٍ من بيت اللحم عرفتُه في بوسطن عام 2002: ليس هناك سببٌ مباشرٌ من جانب اليهود أو المسلمين لهجرتي، لكنّ أولادي كبروا وتعلّموا وضاقت علينا فُرَص العيش وسُبُل العمل، فاستعنْتُ بالكنيسة البرسبتارية (البروتستانتية) التي انتمى إليها جدي، وهاجرتُ. وقد ظلّت بعثتُهم بفلسطين لسنتين تحاولُ إقناعي بالبقاء دون جدوى! والواقعُ أنّ هذا التبشير الطويل المدى أضرَّ بالمسيحية العربية والمشرقية من عدة نواحٍ: أدخل الفتنة إلى صفوف تلك الكنائس التاريخية التي كانت العلاقاتُ قد استقرت بينها عبر القرون رغم الانقسامات العائدة إلى القرون المسيحية الأربعة الأولى، ومعنى الفتنة هنا الاضطراب في الهوية والانتماء، والتنافس على الموروثات والموارد (بين الروم الأرثوذكس والمتحولين إلى الكاثوليكية منهم مَثَلاً). بيد أنّ العامل الأهمّ في الضرر هو الغُربةُ التي أحدثتها الانتماءات الدينيةُ الجديدةُ بين المسيحيين والمسلمين. فقد شعر كثيرون من المسلمين (حتى المعتدلين والذين ما كانوا مهتمين بالدين أساساً!) أنّ زملاءَهم في العيش التاريخي إنما يستنصرون عليهم بالمستعمرين من الإنجليز والفرنسيين، والذين كانوا علمانيين في بلادهم الأصلية، لكنهم مسيحيون إنجيليون أو كاثوليك في البلدان المستعمَرة! وقد اقترن هذا الأمر في ظهوره بالهويات الوطنية والقومية التي بدأت تظهرُ في البلاد العربية في حقبة التحرر من الاستعمار، واكتساب التوجهات القومية والوطنية بالتدريج هويةً إسلاميةً خفيةً أو مُعْلنة. بيد أنّ أبرز عوامل السلْب في العلاقة بين المسيحيين والمسلمين في العقود الأخيرة (خارج لبنان) تمثلت في أمرين: سوء تصرف الأنظمة تُجاه سائر فئات الشعب، وبخاصةٍ تُجاه الأقليات القلِقة. والصعود الديني الإحيائي والمتشدد لدى المسلمين في سائر البلدان والمذاهب. ولأننا بصدد بحث المسألة المسيحية في فلسطين والعراق؛ فينبغي هنا التركيز على البلدين. أما المسيحيةُ الفلسطينيةُ فإنها ما عانتْ ظاهراً من الاغتراب الذي أحدثتْه القومية العربية وممارسات القوميين؛ لكنها عانت من ظهور الدولة اليهودية التي ضغطت لتهجير المسيحيين والمسلمين على حدٍ سواء. وبسبب ظروف التهجير والاستبعاد ما أمكن للقيادة الفلسطينية التي وعت المشكلة، أن تُسهم إيجاباً في تثبيت المسيحيين في أرضهم، وعلى الخصوص في القدس ورام الله وبيت لحم. وفي السنوات الأخيرة، ومع ظهور حركة "حماس"، ما عاد المسيحي الفلسطيني يشعر بالرعاية أو صَون الحقوق وبالأَولى: ما عاد يشعر أنّ له دوراً سياسياً في المناطق التي ستقومُ فيها الدولة الفلسطينية العتيدة. والعامُل الأساسيُّ هو الكيان الصهيوني، لكنْ من ناحيةٍ ثانيةٍ ليست هناك حمايةٌ أو مناعةٌ في المجتمع الفلسطيني الذي تكوَّن خلال عقود الصراع منذ ثمانينيات القرن الماضي. وقد كان المسيحيون في فلسطين عشية الحرب العالمية الثانية يشكّلون حوالي 20% من مجموع الشعب الفلسطيني، وهم لا يشكّلون اليوم أكثر من 8 إلى 10%، ليس بسبب الهجرة فقط؛ بل لأنّ المسلمين ينمون بوتائر أسرع وأعلى بكثير. أما المسيحيون العراقيون؛ فإنّ أكثر طوائفهم وضعتْ نفسَها تحت مظلة الكنيسة الكاثوليكية، والتي لم تحمهم من قبل، وإنما زادت الشكوكَ فيهم، وساعدتْهم على الهجرة. وكان عددهم حوالي المليون (من 23 مليون عراقي) عام 2000، وهم اليومَ لا تزيدُ أعدادهم على 500 ألف. ومنطقة الموصل -كركوك، والتي تمتد باتجاه آسيا الصغرى التركية، هي موطنٌ تاريخيٌّ للمسيحية منذ القرن الثالث الميلادي. وهم يتعرضون منذ ثلاثينيات القرن الماضي لضغوطٍ من الإثنيات والمذاهب الأُخرى. لكنهم بعد الاحتلال الأميركي باتوا في مهبّ الريح، ليس بسبب الأصوليات السنية والشيعية الصاعدة وحسْب؛ بل وللصراع المُميت بين العرب والأكراد والتركمان في تلك المنطقة على الأرض والموارد والسكّان.وفي ظروف الأزمات يتطلع الناس إلى حماية الحكومة المركزية، لكنها في تلك المنطقة بالذات ضعيفة، لسيطرة الميليشيا الكردية عليها، ووجود "القاعدة" والميليشيات السنية والشيعية والتركمانية! في كتاب "المسيحية العربية" للأب جان كوربون مطالعَ السبعينيات، هناك حديثٌ عن عدة عوامل أثّرت وتؤثّر في مصائر المسيحية العربية. لكنْ لا الأب كوربون ولا غيره يمكن له التنبُّؤ بمصائر هذه الفئة أو تلك، إذا كان الجميع يتآمر على الجميع: لا يُلامُ الذئبُ في عدوانه إن يكُ الراعي عدوَّ الغنمِ