لم يكن الأمر يتطلب حرباً بين روسيا وجورجيا للكشف عن كون العلاقات بين روسيا والغرب قد نحت منحى سيئاً؛ وذلك على اعتبار أنها أخذت في التدهور منذ منتصف عقد التسعينيات، حين اتُّخذ القرار بشأن توسيع حلف شمال الأطلسي "الناتو" حتى يشمل دول "ميثاق وارسو" السابق. حين اتخاذ ذلك القرار، قال جورج إيف. كينان، الدبلوماسي والمؤرخ الأميركي البارز، إنه يمثل الخطأ الأفدح والأكثر كارثية الذي يتم اتخاذه في السياسة الخارجية الأميركية منذ عقود؛ غير أنه أخطأ في التقليل من شأن حجم الأخطاء التي كانت قادمة، في عهد إدارة الرئيس جورج دبليو. بوش. في إحدى مقالاتي الأخيرة، أشرت إلى ما قاله آخر سفير أميركي في الاتحاد السوفييتي السابق، جاك ماتلوك، بخصوص الوعد الذي قطعه الرئيس جورج بوش الأب على نفسه شخصياً، وأكده وزير خارجيته جيمس بيكر، لميخائيل جورباتشوف، من أنه إذا سُمح لألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية بالتوحد، ولم يضع الاتحاد السوفييتي أية عراقيل أمام استمرار عضوية ألمانيا الموحدة في حلف "الناتو"، فإن التحالف الغربي لن يسعى إلى التوسع والتمدد في البلدان التي كانت تشكل "أوروبا حلف وارسو". وقد أكد الرئيس ووزير الخارجية ذلك، وقال جيمس بيكر، وفق ماتلوك: "لن نتمدد ولو شبراً واحداً". وفي سبتمبر 1990، وقع توحيد ألمانيا. بيد أن هذا التعهد، للأسف، لم يُلتزم به أبدا ًعلى ما يبدو . ومن دون شك أن الرئيس جورباتشوف اكتفى بالنظر بعمق في عيني بوش وبيكر، مثلما نظر بوش الابن، بعد 11 عاماً، في عيني فلاديمير بوتين؛ فرأى جورباتشوف روحي رجلين نبيلين وشهمين أميركيين، مثلما رأى بوش الصغير في عيني بوتين روح رجل ديمقراطي. والأكيد أن أخطاء كثيرة أخرى من هذا القبيل ارتُكبت، هنا أو هناك. وفي 1993، وصل بيل كلينتون إلى البيت الأبيض، وطالبت اللوبيات الأميركية لبلدان أوروبا الشرقية بأن يتم ضم بلدانها إلى "الناتو". وكان أقواها وأكثرها نفوذاً خاصة اللوبي البولندي في شيكاغو، الذي كان يستطيع قلب نتيجة الانتخابات في المدينة، بل وفي الولاية أيضاً. وهكذا، أنشئ في 1994 ما يعرف بـ"الشراكة من أجل السلام"، وهي شكل مصغر من أشكال العضوية في "الناتو" انضمت إليه بولندا وهنغاريا وجمهورية التشيك. وفي 1999، أصبحت هذه البلدان أعضاء كاملة العضوية في "الناتو". وخلال هذه الفترة، كان "الجمهوريون" و"الديمقراطيون" يتنافسون على أصوات أنصار بقية دول "ميثاق وارسو" السابق، وأنصار دول البلطيق أيضاً، التي أدمجت ضمن الاتحاد السوفييتي إبان الحرب العالمية الثانية. وهكذا، انضمت كل هذه البلدان في نهاية المطاف إلى "الناتو" في سنة 2004. وبعد ذلك، جاء ترشح أوكرانيا وجورجيا، وكلتاهما كانت جزءاً لا يتجزأ من الإمبراطورية الروسية القيصرية ابتداء من القرن التاسع عشر. وربما يحسن في هذا المقام التذكير بأن السفير والمؤرخ جورج كينان يقول في كتابه الأخير "في نهاية قرن" الصادر عام 1996، قال عن روسيا الجديدة، في مرحلة ما بعد الشيوعية، شيئاً لا يبدو أن أية حكومة أميركية أخذته على محمل الجد؛ حيث كتب حينها يقول: "أن تصل روسيا في يوم من الأيام إلى الديمقراطية، بمعنى أن تكون لديها مؤسسات سياسية واجتماعية واقتصادية شبيهة بمؤسساتنا، فهذا أمر لا ينبغي توقعه. وحتى إن اختلفت الأشكال الروسية للحكم الذاتي كثيراً عن نظيراتها في الغرب، فلا ينبغي أن نفترض أن ذلك سيكون شيئاً سيئاً بالكامل". إن الأمم هي ما يصنعه التاريخ بها؛ وذلك يشمل تجاربها السيئة وتجاربها الجيدة. وقد أثبت بوتين أنه يتمتع بشعبية واسعة جداً في روسيا وإن كان يفتقر إليها كثيراً لدى الحكومة ووسائل الإعلام الأميركية، وذلك للأسباب ذاتها: فهو قومي روسي، منح روسيا وضعاً مستقلًا وقوياً يرضي الكبرياء الروسي، وذلك بعد عقدين من الإذلال والفوضى والانقسام الاجتماعي، وكلها أشياء يربطها الكثير من الروس اليوم بالتأثيرات الأميركية والغربية التي مورست على بلدهم. وفضلًا عن ذلك، فإنه وضع نهاية سريعة وناجحة في جورجيا لما يُنظر إليه في روسيا على نطاق واسع على أنه استفزاز مقصود ومتعمد من جانب الولايات المتحدة. لقد أظهر بوتين أن الولايات المتحدة و"الناتو" ضعيفان بالفعل في منطقة القوقاز، وأنهما ليسا في وضع يسمح لهما بإزعاج روسيا في أماكن تقع ضمن منطقة نفوذها التاريخي. وعلاوة على ذلك، فقد مُنحت روسيا اليوم ما يشبه "اهتماماً تحكمياً" في الحرب التي يخوضها "الناتو" في أفغانستان. ذلك أنه نتيجة للأخطاء التي ارتكبتها الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، ونظراً لزيادة متاعبها في باكستان، فإنها اضطرت إلى أن تطلب من روسيا السماح للإمدادات الكبيرة المتوجهة إلى أفغانستان بالمرور عبر روسيا. بيد أن المثير للسخرية بخصوص هذا الأمر، ليس فقط حقيقة أن الولايات المتحدة، بموازاة مع استغلالها لروسيا في أماكن أخرى، تعتمد عليها من أجل خوض حرب أفغانستان، وإنما أيضاً في كون روسيا باتت تتحكم اليوم في الفترة التي ستستغرقها تلك الحرب. والواقع أنه من غير المستبعد أن تكون تلك الفترة شبيهة بتلك التي احتاجها الأفغان لتدمير الجيش الروسي أثناء محاولته السيطرة على بلدهم خلال السنوات الأخيرة من عهد الاتحاد السوفييتي، والنيل من معنويات الشعب الروسي، فترة بالطول الذي يفي بالغرض، وليس أكثر! ــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويليام فاف كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفيس"