في عام 1983، عُيّنتُ مبعوثاً خاصاً للشرق الأوسط في إدارة الرئيس الأسبق رونالد ريجان. وكانت تتلخص مهمتي في تهدئة الأوضاع، وتحقيق قدر من الاستقرار في علاقات إسرائيل بجاراتها في المنطقة، ابتداء من علاقاتها بلبنان. وحينها كان هذا الأخير محتلاً من قبل كل من سوريا وإسرائيل. فقد اجتاحت القوات السورية الأراضي اللبنانية بعد وقت قصير من اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1975، بينما توغلت القوات الإسرائيلية في أراضي لبنان منذ اجتياحها له في شهر يونيو من عام 1982. وبعد أشهر وجيزة من تلك الأحداث، استدعيت إلى واشنطن حيث عينت في منصب مستشار الأمن القومي للرئيس. وفي منتصف ليلة الجمعة الموافق الحادي والعشرين من أكتوبر، استيقظت على مكالمة هاتفية من جورج بوش الأب -نائب الرئيس- حدثني خلالها عن طلب العديد من دول منطقة الكاريبي الشرقية، من الولايات المتحدة الأميركية إرسال قوات عسكرية إلى جزيرة جرينادا للحيلولة دون إقامة كل من الاتحاد السوفييتي وكوبا قواعد عسكرية تابعة لهما هناك. وسرعان ما اتصلت بكل من الرئيس رونالد ريجان ووزير الخارجية حينها جورج شولتز، وحصلت على موافقتهما بنشر قواتنا في جرينادا خلال 72 ساعة. وخلال أقل من 24 ساعة أخرى، أيقظتني مكالمة أخرى في منتصف الليل، صادرة عن غرفة العمليات في البيت الأبيض. وأعلمني الضابط المناوب ليلتها، أن ثكنات جنود المارينز في لبنان تعرضت لهجوم كبير مدمر من قبل مليشيات "حزب الله" اللبناني، وأن الهجوم أسفر عن عدد كبير من القتلى والضحايا بين جنودنا. فما كان مني إلا أن عاودت الاتصال بالرئيس، الذي قرر قطع إجازته المؤقتة والعودة إلى البيت الأبيض على الفور، للتصدي لكلتا الأزمتين. وفي الحادي والعشرين من أكتوبر من العام الجاري، تكون قد مرت الذكرى الخامسة والعشرون لهجوم مليشيات "حزب الله" على قوات المارينز، وهو الهجوم الذي أسفر عن مصرع 241 جندياً من جنودنا المرابطين هناك، ضمن قوة دولية متعددة الجنسيات لحفظ السلام في لبنان. يذكر أن هجوماً آخر على قاعدة القوة الفرنسية، أسفر عن مصرع 58 من أفرادها. وكان قد جرى التخطيط لذلك الهجوم على مدى أشهر عديدة في منطقة وادي البقاع. وما إن حددت المخابرات الأميركية ذلك الموقع والمسؤولين عنه، حتى تقرر شن ضربة عسكرية ثنائية مشتركة مع القوة الفرنسية على الموقع. إلا أن وزير الدفاع جاسبر واينبرجر أوقف الضربة قبل مدة قصيرة من تنفيذها. وبعد أربعة أشهر فحسب، أعلن البيت الأبيض عن انسحاب جميع قوات المارينز، مؤكداً بتلك الخطوة، إحدى أكبر هزائم سياساتنا وأكثرها تكلفة ومأساوية في تاريخ عملياتنا الرامية إلى مكافحة الإرهاب، رغم قصر عمرها في تاريخ بلادنا الحديث! وفي وسع المرء تلخيص عدد من الدروس والاستنتاجات المهمة من تلك الخطوة، على أن أهمها -في وجهة نظري الخاصة- هي تلك التي توصل إليها إرهابيو المنطقة أنفسهم: فليس للولايات المتحدة الأميركية من العزم ولا الحيلة التي تمكنها من التصدي الناجع للهجمات الإرهابية التي تشن ضدها. وفيما يبدو، فإن هذه القناعة لدى الإرهابيين الشرق أوسطيين، كانت الدافع المحرض لهم على شن سلسلة من الهجمات التي استهدفت المصالح القومية الأميركية طوال عقد التسعينات: تفجيرات مركز التجارة العالمي في عام 1993، الهجوم على القوات الجوية في أبراج الخبر بالمملكة العربية السعودية عام 1996، الهجوم على السفارتين الأميركيتين في تنزانيا وكينيا عام 1998، انتهاء بالهجوم على المدمرة "كول" في شواطئ اليمن عام 2000. وكما استنتج الإرهابيون منذ هجومهم على قوات المارينز في لبنان، أن الولايات المتحدة ليست عازمة على التصدي لهم بما يكفي من القوة والردع. ولم تخط الولايات المتحدة لاتخاذ قرار بمكافحة الإرهاب الإسلاموي والتصدي له بحزم، إلا بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 على التراب الأميركي نفسه. أما الدرس الثاني الذي يمكن استخلاصه من الهجوم المدمر على قوات المارينز في لبنان، فيتعلق بالمبدأ العسكري القديم المعروف: إياك أن تنشر قوة عسكرية أياً كان حجمها، دون أن توكل إليها مهمة حربية محددة. يذكر أن قوة "المارينز" التي كان قد تم نشرها في مطار بيروت الدولي في عام 1983، قد كلفت بمجرد "الحضور العسكري" الذي قصد منه توفير الدعم المعنوي للحكومة اللبنانية المزعزعة حينها. ومن جانبي ووزير الخارجية جورج شولتز، كنا قد طالبنا بأن توكل مهمة تقليدية حربية لتلك القوات، كأن يتم نشرها -بموجب طلب من الحكومة اللبنانية- في جبال لبنان، جنباً إلى جنب مع قوات الجيش الوطني الناشئة، في مسعى لتأمين انسحاب القوات السورية والإسرائيلية الغازية للبنان. غير أن "واينبرجر" وزير الدفاع، رفض الموافقة على هذا الطلب، استناداً إلى رسوخ قناعته بأن المصالح القومية الأميركية في المنطقة تكمن في النفط وليس أي شيء آخر غيره. وعليه، فإنه يتعين على بلادنا تفادي القيام بأي مهمة عسكرية، من شأنها أن توقع ضحايا وقتلى مسلمين، مما يثير غضب الشعوب المسلمة علينا، ويهدد مصالحنا النفطية في بلادهم. وعلى الرغم من أن اختلاف وجهات النظر وتباين الآراء بين أعضاء مجلس الوزراء كان عادة ما يؤدي إلى رسم سياسات أفضل، إلا أن الملاحظ على اعتراض "واينبرجر" على تحديد مهمة تقليدية حربية محددة لقوة المارينز في لبنان، أنه مر دون حتى أن يعلق عليه الرئيس ريجان. ولعل ذلك الصمت الرئاسي على موقف وزير دفاعه واينبرجر، هو ما أعطى الأخير شعوراً بتأكيد الرئيس نفسه لصحة موقفه. ولدى مواجهته رفض وزير دفاعه إيكال أي مهمة محددة لتلك القوات، أمر الرئيس بسحبها، باعثاً بذلك رسالة قوية شديدة الوضوح للإرهابيين، عن عجز بلادنا عن مكافحة نشاطهم الذي لم يزل وليداً ويافعاً في حينه! غير أننا تعلمنا كثيراً من الدروس والتجارب والوسائل في مكافحة التطرف والإرهاب، منذ هجمات 11 سبتمبر وإلى اليوم. وقد أتى تمسكنا بمواصلة مهمتنا في العراق أكله. وإذا ما استمر هذا النهج، فإنه سوف يمكننا من توطيد نموذج للتعددية السياسية في قلب العالم الإسلامي، مصحوباً بالنماء والازدهار الاقتصادي. ولكن يتطلب هذا إحراز الفوز في أفغانستان أولاً، باعتبارها ميدان المعركة الحاسمة والأهم في الحرب الدولية المعلنة على الإرهاب. ولم يسبق للبيت الأبيض قط، أن كان بكل هذا القدر من الحاجة إلى التعلم من التجارب السابقة واستخلاص دروسها، مثلما هو اليوم. وما لم يتمكن رئيسنا المقبل من فهم الطبيعة المعقدة الصعبة لهذه التحديات الأمنية، ومن ثم قيادة وزرائه على نحو فعال، يفضي إلى تنفيذ الاستراتيجيات التي يتم التوصل إليها بما يلزم من عزم وحسم، فإنه على الأرجح أن نخسر حربنا الدائرة على الإرهاب. روبرت ماكفارلانس مستشار سابق للأمن القومي الأميركي (83-1985) ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"