بعد ثلاثة عقود لم تبِن فيها الولايات المتحدة ولو محطة نووية واحدة لسد احتياجاتها المتعاظمة من الطاقة، تستعد اليوم الصناعة النووية الأميركية لاستئناف البناء وإقامة محطات جديدة لتوليد الكهرباء من الطاقة النووية. فعندما أعلنت الشركات الأميركية المتخصصة في الطاقة النووية قبل عدة سنوات استئنافها بناء محطات جديدة لإنتاج الطاقة قوبل إعلانها بتشكيك كبير، إذ لم تُنشأ أي محطة منذ العام 1973، كما أن الطلبات الأخيرة التي رفعت للسلطات المختصة لمعاودة الاستثمار في الطاقة النووية اعترضتها صعوبات جمة دفعتها في بعض الأحيان إلى التخلي عن مشاريعها. لكن اليوم، وبحسب لجنة تنظيم الطاقة النووية الأميركية المخولة بمنح تراخيص جديدة، ثمة 21 شركة قدمت طلباتها لبناء 34 محطة نووية جديدة تتوزع على طول المسافة من نيويورك إلى تكساس، وظهرت المصانع في العديد من المدن الأميركية لبناء المفاعلات النووية وتزويد الشركات التي ستتولى بناء المحطات بما تحتاجه من تجهيزات. وهكذا بدأ العمال في إخلاء أماكن مناسبة في جورجيا لوضع المفاعلات، كما أنه ابتداء من شهر يناير المقبل ستفرض رسوم إضافية على الملايين من مستهلكي الكهرباء في فلوريدا لتمويل أربعة مفاعلات جديدة ستقام في الولاية. وفي هذا الإطار، أعلنت الشركة الفرنسية "أريفا" التي تعد الأكبر من نوعها في بناء المفاعلات النووية على الصعيد العالمي، يوم الخميس الماضي، عن تخصيص أكثر من 360 مليار دولار لبناء أجزاء من مفاعل في الولايات المتحدة وتصدير بعض من المفاعلات إلى الخارج. واللافت أن هذا التغير الكبير في التعاطي مع الطاقة النووية والإقبال الملحوظ من قبل الشركات للاستثمار فيها فاجأ لجنة تنظيم الطاقة النووية، التي يبدو أنها نسيت طريقة فحص طلبات الاستثمار، إلى درجة أنها سارعت في عجلة من أمرها لتوظيف المئات من المهندسين الجدد للتعامل مع العدد المتزايد من طلبات الشركات. لكن مع ذلك برزت مجموعة من المشاكل تهدد بعرقلة ما يمكن أن يسمى الصحوة النووية، إذ لا أحد يتوقع استكمال بناء الأربع والثلاثين محطة نووية التي أعلن عنها في البداية، لاسيما أن التكلفة -وهي تقدر بالمليارات- لم تحسم بعدٌ، كما لم تحدد طريقة الحصول على التمويل في ظل الأزمة المالية الحالية، ومدى جدوى الاستثمار في الطاقة النووية مقارنة بباقي مصادر الطاقة التي قد تكون ذات تكلفة منخفضة. بيد أن تلك العراقيل لم تمنع الخبراء من التأكيد أن بعضاً من تلك المحطات سيتم إنجازها على الأقل وسترى النور فعلًا خلال السنوات المقبلة. فبالنظر إلى قلق الرأي العام المتزايد من مخاطر الاحتباس الحراري وإلى التاريخ المطمئن للمحطات النووية طيلة السنوات الأخيرة، "أصبحت البيئة العامة مشجعة على الاستثمار في الطاقة النووية، وربما تكون الأفضل منذ انطلاق المحطات في العمل قبل ثلاثين عاماً"، حسب "برايان بالوج"، أستاذ التاريخ بجامعة فرجينيا. وخلافاً لأنواع توليد الطاقة الأخرى، لا تسبب المحطات النووية أي انبعاث للغازات الملوثة المسؤولة عن الاحتباس الحراري. وعملياً، ترجع آخر طلبات بناء مفاعلات نووية في الولايات المتحدة إلى أكتوبر من العام 1973، وهو الشهر الذي بدأ فيه الحصار النفطي الذي فرضه العرب مدشناً مرحلة جديدة من المشاكل الاقتصادية رفعت من تكاليف البناء وقوضت الطلب العالمي على الطاقة، وفي النهاية تم إلغاء بناء أكثر من مائة محطة نووية كان بعضها في مراحله الأخيرة، مما أهدر عشرات المليارات من الدولارات. والأكثر من ذلك جاءت حادثة تشيرنوبيل عام 1986 لتضع عراقيل إضافية أمام الاستثمار في الطاقة النووية، ناهيك عن المحركات الرخيصة التي تم تطويرها لإنتاج الكهرباء من الغاز الطبيعي، حيث باتت المحطات النووية أكثر تكلفة قياساً إلى الغاز الطبيعي. ومع ذلك لم تختفِ الطاقة النووية من الساحة، وظلت تقوم بدورها في توليد الكهرباء، حيث استمر أكثر من 104 مفاعلات تجارية في العمل، كما حسنت الصناعة النووية قدراتها وباتت أكثر أمناً من ذي قبل وأفضل كفاءة في توليد الطاقة لتوفر حوالي 20 % من حجم الكهرباء المستهلك في الولايات المتحدة. وبتصاعد المخاوف من تأثير الاحتباس الحراري على الأرض والنقص في إمدادات الغاز الطبيعي، بدأ يتزايد الدعم في الكونجرس والولايات المختلفة للطاقة النووية، بل ذهب حاكم ولاية ماريلاند إلى اعتبار الاستثمار في الطاقة النووية "واجباً أخلاقياً" للتصدي لتهديد الاحتباس الحراري، ولا ننسى أيضاً تسابق الولايات إلى استقطاب المشاريع الإنشائية الكبرى، مما يفسر الدعم الذي تحظى به المحطات النووية في الوقت الحالي. ولتشجيع الاستثمارات في مجال الطاقة النووية، أمّن الكونجرس 18.5 مليار دولار كضمانة للقروض بموجب القانون الصادر عام 2005، بالإضافة إلى الدعم الذي تقدمه الحكومة للطاقة النووية على غرار ذلك المتوفر للطاقة الشمسية وطاقة الرياح دون أن ننسى التأمين ضد التأخير في استخلاص التراخيص. وفيما يتعلق بالمعارضة السياسية المتوقعة لبناء المفاعلات النووية، فقد ظلت خافتة إلى حد الآن، ربما بسبب انصراف المنظمات البيئية إلى التركيز على محطات الفحم الحجري الملوثة للبيئة، بالإضافة إلى الوعي المتنامي لدى تلك المنظمات بأهمية الطاقة النووية في الحد من انبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحراري. ورغم ما يحوم من شكوك حول كيفية التخلص من النفايات النووية التي تلفظها المحطات النووية، فقد سارعت شركات المعنية بتطمين الرأي العام أنها ستبني مواقع مؤقتة للتخلص من النفايات في أماكن بعيدة داخل الصحراء. ماثيو وولد كاتب أميركي متختص في شؤون الطاقة ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"