لولا الاستدانة والدين، لما كان الإقطاع ولا الرأسمالية ولا نمط الاقتصاد الاشتراكي، ولما نشأت الثروة أصلاً. ولولاهما لاستمرت البشرية في العيش في الكهوف مثل إنسان العصر الحجري، بينما اعتمدت في وجباتها على كل ما تستطيع صيده من الحيوانات البرية والبحرية إلى اليوم. غير أن مؤلفة الكتاب الذي نعرضه هنا، وهي مارجريت أتوود، آثرت اختيار وجه آخر من وجوه الموضوع، ألا وهو الجانب الثقافي التاريخي من الديون والثروة. وبحسب هذالمنظور، فإنه ليس للجانب الأدبي الثقافي التاريخي للإقراض والاستدانة، وشعور المرء بأنه مدين لشخص أو جهة ما، وكذلك سداد الديون المستحقة، صلة تذكر بعلوم المال والاقتصاد، بقدر ما لها من صلة قوية بالجانب الإنساني لهذه المعاملات. يتألف الكتاب من سلسلة من المحاضرات الإذاعية التي قدمتها المؤلفة عبر برامج الحوار في "هيئة الإذاعة البريطانية" منذ فترة سابقة لنشوء الأزمة المالية الأخيرة، لكن نشره الآن جاء متزامناً مع الأزمة المذكورة. تقول الكاتبة إن الدين يعد ممارسة قديمة قدم المجتمع البشري نفسه وإن وجد في كافة الحضارات الإنسانية، لذلك كان لأول القوانين التي شرعها المجتمع البشري صلة وثيقة بسداد الديون واستعادة الحيازات والملكيات. وما من ديانة واحدة خلت من نصوص تتحدث عن الديون وأهمية الوفاء بها وكيفية السداد وعواقب عدم الوفاء بالدين. وترى الكاتبة أن فكرة الدين تعتمد إلى حد كبير على شعور عام بالعدالة وغيرها من القيم الأخلاقية والحقوقية المرتبطة بها. فإذا ما استدان المرء مالاً ولم يلتزم بسداده، عندها ينمو الشعور الاجتماعي بأن العدالة قد انتهكت وأن الأخلاق قد فسدت. والملاحظة التي تبديها "أتوود" هنا أن الغريب أن هذا الشعور ليس قاصراً على المجتمعات البشرية وحدها، إنما توجد له مكافئات شبيهة بين مجتمعات قرود "الشيمبانزي" أيضاً. وهذا ما يعزز فكرة أن الدين ليس ظاهرة محايدة أخلاقياً. وعادة ما ينظر إلى الإفراط في الاستدانة على أنه ضرب من الفسوق. كما تنطبق النظرة نفسها على الإفراط في الإقراض، خاصة إذا ما تجرد الدائن من مشاعر الرحمة لدى مطالبته للمدين بالوفاء بما عليه، بصرف النظر عن الظروف والمصاعب المحيطة به. وهناك من الديون ما لا تجمعه أي صلة بالمال. خذ لهذا النوع مثالاً ما يدين به المجتمع البشري لكوكب الأرض والحياة بوجه عام. ثم شعور الناس بكونهم مدينين لغيرهم من الأفراد من حولهم. وضمن هذا يندرج شعور الفرد بما عليه من دين مستحق وواجب السداد عند ربه. وهنا اعتمدت المؤلفة كثيراً على قصة الكاتب تشارلز ديكنز المعنونة "أغنية عيد الميلاد" التي عادة ما يمر بها القراء العاديون على أنها أقرب إلى الحكايات الأسطورية الخيالية التي لا تستوقف التأمل والتفكير فيها كثيراً. إلا أن "أتوود" تعيد تفكيكها وتشريحها ثم تركيبها ثانية، بما يخدم تعميق الفكرة الرئيسية التي تطرحها في هذا الكتاب. وفي الاتجاه نفسه، تنسج الكاتبة الخيوط الأدبية من أهازيج الأطفال وقوافي أشعارهم السهلة البسيطة، إلى أعقد منتجات الأدب الإنساني الممتدة من مسرحيات أسخيلوس في الحضارة اليونانية إلى أحدث الكتابات المعاصرة. على أن التحليل مر بعدة مناهج ومعارف إنسانية أخرى عززت بها فكرة أن الدين شيء أقرب إلى الهواء الذي نتنفسه كما لو كان هبة من هبات الطبيعة، إلى أن تبدأ الأمور بالسير في الاتجاه الخطأ الذي لم نكن نتوقعه. هذا وقد لامس الكتاب جانباً من الجوانب العملية المرتبطة بإدارة الديون والأموال والكيفية التي تؤثر بها هذه المعاملات على حياة المجتمع البشري. إلا أن الوجه الأكثر إثارة لاهتمام الكاتبة بهذه الجوانب هو دراسة الإقراض والاقتراض وكيفية الوفاء بالدين وشروطه، باعتبارها دوافع كامنة في السلوك الثقافي والديني للبشر. ولطالما عبَرت شتى المجتمعات البشرية عن هذه الدوافع السلوكية، من خلال منظومة كاملة من المفاهيم مثل "التوازن" و"العدالة" والنزاهة" و"الأمانة" و"الإثم" و"الانتقام" وغيرها. بعبارة أخرى فقد غرست فكرة الدين منذ عصور بعيدة في مخيلة المجتمع البشري، وتعتبر إحدى أهم السلوكيات الدينامية المحركة له. ولمن يريد البحث عن هذه الحقيقة، فليمض إلى التحقق منها مثلما فعلت الكاتبة في الأدب والأديان واستقصاء تركيبة المجتمع البشري منذ الأزل. يذكر أن "مارجريت أتوود" كاتبة معروفة حائزة على جائزة "بوكر" فضلاً عن جوائز رفيعة أخرى. وهي فوق ذلك نائبة رئيس منظمة “Pen" الدولية المعنية بمساعدة الكتاب من مختلف أنحاء العالم على التعبير السلمي عن آرائهم وأفكارهم. عبدالجبار عبدالله الكتاب: السداد... الدين والوجه المبهم للثروة المؤلفة: مارجريت أتوود الناشر: دار "أنانسي" للطباعة والنشر تاريخ النشر: 2008