بعد الحرب على العراق وتوغل أميركا في مستنقعها الآسن الذي سيورطها لسنوات لاحقة صدرت مجموعة من الكتب تحاول فهم ما جرى وسبر الدوافع، الخفي منها والمعلن، التي قادت إلى اتخاذ قرار الحرب. وفي كل تلك التحليلات التي رامت كشف الحقيقة للرأي العام الأميركي، كانت الخلاصة تذهب في مجملها إلى انتقاد مسار إدارة الرئيس بوش وحلقة "المحافظين الجدد" الذين نظروا للحرب ومهدوا لها بتبريراتهم الأيديولوجية وذلك على حساب الصورة الشاملة والسياق العام. والكتاب الذي نعرضه اليوم لمؤلفه "يوجين جايكي" تحت عنوان "أسلوب الحرب الأميركي: الصواريخ الموجهة والرجال المضلَلَين وجمهورية في خطر"، يختلف عن الكتب السابقة التي قاربت السياسة الأميركية بعدم تركيزه فقط على انتقاد إدارة بوش، كما جرت العادة، وباستحضاره للتجربة التاريخية الأميركية كمفتاح لفهم قرارات أميركا الراهنة. لكن القراءة التاريخية التي يعتمدها الكاتب في مقاربة موضوعه لا تستعيد الوقائع التاريخية إلا بقدر خدمتها للحاضر وتسليط الضوء عليه. وإذا كان الكاتب حريصاً على توضيح مسؤولية إدارة بوش عن المكانة المتردية التي آلت إليها الولايات المتحدة في أنظار العالم وتراجع نفوذها بسب القرارات الخاطئة التي اتخذتها، فإنه يحيل إلى صيرورة الأحداث والتحولات التي سبقت الإدارة الحالية بمراحل وقادت إلى الوضع الراهن. وبدلا من الوقوف عند الانتقادات التي وجهت كثيراً إلى هذه الإدارة وتحميلها مسؤولية إخفاقات السياسة الخارجية الأميركية، يحاول الكاتب معرفة الأسباب التي قادت الإدارة إلى اتخاذ قراراتها الكارثية. وهكذا يرجع بنا إلى خطاب الرئيس دوايت إيزنهاور الأخير عام 1961 حين حذر من "الصعود الكارثي للسلطة غير المتوازنة" والناجمة بدورها عما سماه "المركب العسكري الصناعي" وتأثيره في عملية اتخاذ القرار. لكن هذا التخوف المتأصل لدى النخب الأميركية من استئساد سلطة على أخرى وتلاعب قوى خفية بمسار أميركا وتوجيهه نحو الحرب، ليس جديداً ولم يبدأ مع الرئيس إيزنهاور، بل يرجع كما يوضح الكاتب إلى البدايات وتحديداً إلى الرئيس جورج واشنطن الذي حذر من "تضخم المؤسسة العسكرية" وخطورتها على الحريات الجمهورية. واليوم ومع وصول موازنة الدفاع الأميركية إلى مستويات غير مسبوقة في تاريخ العالم وبتوظيف قطاع الدفاع لملايين الأميركيين، فضلا عن وجود أكثر من 800 قاعدة عسكرية في 130 دولة، يكون أسوأ ما في تلك المخاوف التي حذر منها الرؤساء الأميركيون قد تحقق. وفيما تسعى أميركا إلى تجاوز السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين نحو مرحلة جديدة أكثر اتزاناً ورصانة على الساحة الدولية، فإنها تبقى حبيسة قراراتها الخاطئة كما يتجلى ذلك بوضوح في مأزقها العراقي وصعوبة رسم استراتيجية واضحة تهم مستقبل الشرق الأوسط. ومع ذلك يقاوم الكاتب الإغراء الذي تمارسه إدارة بوش بانتقادها لما ارتكبته من أخطاء جسيمة طيلة فترتها في البيت الأبيض باحثاً عن القوى التاريخية المسؤولة عن وضعها الراهن. وفي هذا السياق يرى الكاتب أن أميركا ومنذ نشأتها صاغتها أهواء متباينة ورؤى تنازعت فيما بينها وتنافست لرسم طريق المستقبل، فمن جهة سعى المؤسسون الأوائل الذين عانوا من تعسف التاج البريطاني إلى تفادي أخطاء الإمبراطورية واضعين مبادئ محددة تحكم مسار الجمهورية الوليدة، ومن جهة أخرى أدركوا الإمكانات الهائلة للدولة الناشئة وقدرتها على تبوؤ مكانة متميزة على الصعيد العالمي، فحاولوا النأي بها عن صراعات القوى الإمبراطورية والابتعاد عن الأهواء التي تملكت الدول الأوروبية وأدخلتها في حروب طاحنة. بيد أن هذا الحرص الذي أبداه الأميركيون الأوائل، تلاشى مع مرور الزمن لتبرز عوامل أخرى ساهم فيها التطور الصناعي الهائل بعد مشاركة أميركا في الحرب العالمية الثانية وبروزها كقوة عالمية صاعدة، مما دفعها في النهاية إلى التخلي عن عزلتها القديمة والانخراط في الصراعات الدولية. ومع كل انتصار حققته الولايات المتحدة وقعت في فخ نجاحها وأطلقت العنان للمركب الصناعي العسكري لتصل الأمور إلى إدارة بوش والحرب في العراق. وللتدليل على سطوة شركات تصنيع السلاح وتأثيرها المتنامي على القرار السياسي، يشير الكاتب مثلا إلى الشركة المصنعة للمقنبلة B-1 وإنتاجها لكل جزء من أجزائها في ولاية من الولايات الأميركية. واللافت أنه لا توجد ولاية أميركية واحدة لا تصنع قطعة من قطع الطائرة، والسبب حسب الكاتب هو خلق قاعدة شعبية وسياسية مرتبطة بالشركة تدافع عن مصالحها على المستوى المحلي وعلى المستوى الفيدرالي. بهذه الطريقة تضمن الشركة استمرارها الدائم وإنتاجها المتواصل للمقنبلات دون أن يُسائلها أحد ما دام الجميع مستفيداً من وجودها على تراب ولايته وما دامت توفر فرص العمل للناخبين، ولن يجرؤ أحد في هذا السياق على إثارة أسئلة من قبيل: هل نحتاج فعلا إلى الشركة؟ وماذا لو أغلقنا أبوابها؟ وبالطبع فإن ما ينطبق على الشركة المصنعة لمقنبلة B-1 يسري على مجمل شركات إنتاج السلاح في أميركا. زهير الكساب الكتاب: أسلوب الحرب الأميركي: الصواريخ الموجهة والرجال المضلَلَين وجمهورية في خطر المؤلف: يوجين جايكي الناشر: فري بريس تاريخ النشر: أكتوبر 2008