أوضحت الكارثة المالية الأخيرة، وما سبقها من أزمات اقتصادية شديدة الحدة والآثار، مدى الحاجة إلى مراجعة الاقتصادات العربية والإسلامية، وارتباطها بالاقتصادات الأخرى، وضرورة التحرك بقوة نحو استعادة الهوية الاقتصادية لهذه الشعوب مجدداً، كي يصبح نظام الاقتصاد الإسلامي بديلاً لواقع التبعية، وأساساً للحياة الاقتصادية، وذلك لقدرته على علاج المشكلات الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة، بحكم القيم الأخلاقية ومبادئ العدالة والشفافية والتكافل التي يرتكز عليها. وقد كان المفكر الجزائري مالك بن نبي واضحاً عندما قال: إن الأمة التي لا تنتج أفكارها لا تستطيع أن تنتج ما يلزم لحياتها ولن تشيد نهضة بأفكار مستوردة، لذلك فإننا اليوم بحاجة ماسة لأن يكون لنا نظامنا الاقتصادي المستقل وهويتنا الاقتصادية المستقلة. عندما ترك الأجانب البنوك التي أسسوها في المنطقة العربية والإسلامية، وظلوا يديرونها فترة طويلة، على الأسس الرأسمالية وباستخدام اللغتين الإنجليزية والفرنسية، حل محلهم جيل تربى على القوالب الجاهزة ذاتها ولم يكن قادراً على تحرير نفسه من تلك التبعية الفكرية التي جعلته يفقد صلته بهويته الاقتصادية! الأهم من ذلك ما أشار إليه أحد الباحثين في علم الاقتصاد من أن الاستعمار قبل أن يطأ الأرض العربية والإسلامية كانت خطته أن يحافظ على وجوده، وذلك بالعمل على تغيير المجتمع وإبعاده عن دينه وتراثه الروحي والفكري في جميع المجالات، وكانت البنوك الربوية إحدى هذه الوسائل التي استعان بها. إن هدف الاقتصاد الإسلامي كعلم وفكر ومنهج، ليس فقط أن يعيد للأمة هويتها ومكانتها وموقعها الذي فقدته، بل أن يُبين للعالم بأسره أنه البديل الصالح لإنقاذ العالم من أزماته الاقتصادية، وأنه الاقتصاد الإسلامي الذي يرتكز في كل عملياته، من إنتاج وتوزيع واستهلاك وبيع شراء واستثمار... على القيم الأخلاقية، وأنه يعمل من خلال منطلقاته الفكرية ونصوصه التشريعية، على محاربة الربا والاحتكار والقمار والكسب الحرام، وأنه يوازن بعدالة بين الخاص والعام، بين الفرد والمجتمع، بين الروح والمادة. إن المنصفين من مفكري الغرب ممن درسوا نظرية الاقتصاد الإسلامي، وشاهدوا تطبيقاته العملية التي تمثلت في "البنوك الإسلامية"، قالوا صراحة إنه اقتصاد مهم جداً للتنمية، وإنه يعمل على تحجيم المشكلات والأخطار الاقتصادية، ويحقق أعلى مستوى من التفاعل بين المؤسسات المالية والمجتمع، وأنه يملك مفاتيح العملية الاقتصادية والتنموية الجادة والصحيحة، ويكفي هنا أن أشير إلى بعض الأمثلة: 1- المذكرة التي صدرت عن مجلس الشيوخ الفرنسي، والتي أشارت إلى أهمية إتساع دائرة التعامل بالاقتصاد الإسلامي في العالم، ومطالبتها بضرورة اتخاذ إجراءات عملية من أجل إيجاد تسهيلات لإدخال النظام المصرفي الإسلامي في النظام البنكي الفرنسي. 2- الإجراءات التي اتخذتها وزيرة الاقتصاد الفرنسية كريستين لافارد بإدماج بعض بنود التعامل بالاقتصاد الإسلامي في النظام البنكي الفرنسي. 3- القرار الذي اتخذته إحدى الجامعات الفرنسية في مدينة ستراسبورج بتدريس مادة الاقتصاد الإسلامي. 4- ما أشار إليه خبراء وول ستريت من أن الاستثمارات التي تعمل وفق أحكام الشريعة الإسلامية في الغرب حققت نجاحات أكبر في الأسواق المضطربة، حيث نمت هذه الاستثمارات المتوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية في الأسواق الغربية خلال السنوات القليلة الماضية إلى أكثر من نصف تريليون دولار. نحن في حاجة إلى فهم حقيقة هويتنا الاقتصادية، في حاجة إلى توسيع دائرة العمل بالاقتصاد الإسلامي وتوسيع مجالاته بحيث يشمل غالبية أوجه الحياة الاقتصادية، وفي حاجة إلى وقف الاندفاع نحو التعاملات الربوية والبنوك الربوية، في حاجة إلى الاستعانة بما تنتجه مراكز البحث المتخصصة في الاقتصاد الإسلامي وإلى فكر علماء الاقتصاد المسلمين في هذا المجال لاشتقاق النصوص والقوانين والتشريعات الاقتصادية التي ترتقي بهذا الاقتصاد وتضع له الأفكار المتخصصة... في حاجة إلى مركز قومي عربي مختص بتقييم ورفد الحالة الاقتصادية العربية والإسلامية وعلاج مشكلاتها، في حاجة إلى تعميق التصور الإسلامي ومنهجه وإبراز جوانبه المضيئة للعالم، وفي حاجة إلى وجود سوق إسلامي مشترك تكون أساساً للتكامل الاقتصادي بين الدول العربية والإسلامية.