يتوقع للرئيس الأميركي المقبل أن يرث حزمة من معضلات السياسة الخارجية الخطيرة، التي تتطلب منه التصدي العاجل لها. لكن ما هي أكثر قضايا السياسة الخارجية إلحاحاً وتطلباً لوضعها في مقدمة جدول أعماله؟ أولاً، وطالما واصلت الأزمة المالية العالمية هزها للأسواق وزعزعتها للثقة في المؤسسات المالية الدولية، فلا بد من أن يتصدر قائمة هذه الأولويات، التعاون الوثيق مع القوى الاقتصادية الدولية الكبرى عالمياً. ومن دون استعادة الثقة في اقتصادها القومي، فسوف تتقلص كثيراً قدرة الولايات المتحدة الأميركية على تبني سياسات خارجية فعالة ومتزنة. ثم تلي هذه الأولوية ضرورة أن يبادر الرئيس المقبل لاتخاذ قرارات عاجلة بشأن عدد ومستوى نشر القوات الأميركية في كل من العراق وأفغانستان. وبالنسبة للعراق، فإن المهمة العاجلة المطروحة أمام الرئيس هي: ما مدى السرعة التي يمكن بها سحب عدد كبير من القوات المرابطة هناك؟ على أن هذه المهمة تطرح على نحو عكسي فيما يتصل بعدد ومستوى القوات المنتشرة حالياً في أفغانستان: كم عدد الجنود الإضافيين الذين يتعين نشرهم في شتى مناطق العمليات العسكرية هناك؟ وإلى أي مدى تبدي دول حلف "الناتو" استعداداً لرفع مساهمتها الحربية في هذه المهمة؟ وبالنظر إلى الدور الإيراني المزدوج الذي تلعبه طهران في سير الأحداث السياسية في كل من العراق وأفغانستان، فإن المتوقع أن تكون الكيفية التي سيتعامل بها الرئيس الأميركي الجديد مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، في مقدمة أولويات سياساته الخارجية. لكن وفي ظل غياب أي مؤشرات في الوقت الحالي، لوقوع هجوم إرهابي كبير علينا، أو على موت أحد القادة الدوليين الكبار المعادين لنا، من أمثال الزعيم الكوبي فيدل كاسترو أو نظيره الكوري الشمالي كيم إيل سونج، فإنه ينبغي للرئيس الأميركي الجديد أن يبذل من الجهد ما يعينه على بناء علاقات تعاون خارجي مستقرة مع باكستان. والذي يدعوني إلى هذا القول، علمي بأنها الدولة الوحيدة القادرة على التأثير سلباً وإيجاباً على نتيجة الحرب التي تخوضها الولايات المتحدة حالياً ضد تنظيم "القاعدة" وحركة "طالبان" بشقيها الأفغاني والباكستاني معاً. وهذا جانب له أهمية كبيرة في تحديد أولوية التعاون مع باكستان، خدمة للمصالح الأمنية القومية الأميركية من جهة، وتعزيزاً للأمن الدولي كله من الجهة الأخرى. كما تتمتع باكستان في الوقت الحالي، ببرلمان منتخب ديمقراطياً، ولها رئيس انتخب للتو. وفوق ذلك خطا قادتها الجدد خطوة كبيرة في مواجهة الإرهاب الذي ضرب بلادهم، وأودى بحياة المئات منهم خلال الأشهر القليلة الماضية. وتشمل أحداث العنف الدموي هذه، اغتيال رئيسة الوزراء السابقة بينظير بوتو، ومحاولات متكررة لقتل عدد من القادة الجدد، بمن فيهم الرئيس آصف علي زرداري، زوج "بينظير بوتو". وعلى رغم الجدل الذي لا يزال يثيره زرداري في السياسات الباكستانية -بسبب ما أحاط بأدائه خلال توليه منصباً وزارياً سابقاً في ظل حكومة زوجته الراحلة- فإنه تمكن من إحاطة نفسه بعدد من المستشارين الموهوبين، العازمين على تحسين علاقات بلادهم الخارجية، ليس مع واشنطن وحدها، وإنما بالقدر نفسه من الأهمية، مع كل من أفغانستان والهند المجاورتين. وفي ذات الوقت اتخذت الحكومة الباكستانية الجديدة من الخطوات، ما يحد من النفوذ الواسع الذي تتمتع به أجهزة المخابرات الباكستانية، التي ظلت لعدة سنوات تمثل لوحدها دولة داخل دولة، وتبنت نهجاً شديد العداء والكراهية للجارة الهند، التي طالما نظرت إليها المخابرات الباكستانية كما لو كانت دولة ترمز إلى تهديد وجودي لأمن باكستان واستقرارها. وبسبب تأثير هذا النهج الاستخباراتي المعادي للهند، تدرب الجيش الباكستاني على خطط وتكتيكات العمليات الطارئة، التي لا تستبعد خوض حرب ثانية مع الهند. والمعروف عن جهاز المخابرات الباكستاني تاريخياً أنه من أقوى المؤسسات الحكومية الداعمة لحركة "طالبان" الأفغانية. ومما يحسب للرئيس الباكستاني الجديد، إبداؤه لحسن النوايا والعزم على تحسين علاقات بلاده مع الهند. وضمن ذلك إدراكه وتفهمه لتعزيز علاقات التعاون بين كل من واشنطن ونيودلهي أكثر من أي وقت مضى، وبالتالي فإنه ليس من مصلحة باكستان في شيء أن تعارض هذا الاتجاه. أما فيما يتعلق بتوطيد العلاقات بين إسلام أباد وكابول، فقد كان الرئيس الباكستاني آصف على زرداري، شديد الوضوح في الإعلان عن رغبته في تحسين علاقاته بنظيره الأفغاني الرئيس حامد كرزاي. فمن رأيه أن السبيل الوحيد لإخماد نيران التمرد في منطقة القبائل الباكستانية، هو تعزيز التعاون بين إسلام أباد وكابول. وبالقدر نفسه فليس ممكناً للولايات المتحدة الأميركية وحلفائها في حلف الناتو، إحراز أي تقدم أو انتصار في الحرب الدائرة على عناصر "طالبان" الأفغانية. ولم تقتصر هذه الرغبة من جانب "زرداري" على التصريحات وإبداء حسن النوايا فقط، إنما ترجمت إلى خطوات عملية، من بينها أن كل الدعم اللوجستي الذي تتلقاه كابول يمر عبر ميناء كراتشي الباكستاني تقريباً، فضلاً عن طرق المرور السريع والسكك الحديدية الممتدة بين باكستان وأفغانستان. كما يشمل هذا المنحى العملي، التصدي المباشر من جانب الحكومة الباكستانية، للتمرد الإرهابي المنطلق من منطقة القبائل، مع العلم أنه متحالف مع تمرد حركة "طالبان" الأفغانية ويمثل الملاذ الآمن لقادتها ومراكز تدريبها. على أنه يلزم الاعتراف بأن باكستان تواجه تصاعد تمرد إرهابي خطير داخل أراضيها، إلى جانب الأزمة المالية التي تعصف باقتصادها. وفوق ذلك فهي تحكم من قبل قادة ديمقراطيين لم يخضعوا للاختبار العملي بعد. وفيما لو أخفقت واشنطن وإسلام أباد في تسوية خلافاتهما، والاتفاق بدلاً منها على سياسات تعاون مشترك، في التصدي لخطر صعود حركة "طالبان"، فمن الممكن لهذا الإخفاق أن يأتي بعواقب كارثية وخيمة على المنطقة كلها. ومما يثير القلق من عواقب كهذه، أن لباكستان ترسانة نووية مكتملة وجاهزة للاستخدام، وأنها ليست ببعيدة عن نشوب حرب أهلية مدمرة فيها. وفي هذا الخطر وحده ما يكفي لحفز القادة السياسيين، ليس في إسلام أباد وواشنطن فحسب، إنما أيضاً في كابول ونيودلهي، لتبني سياسات تعاون مشترك ضد خطر التطرف الإرهابي.