يشير مصطلح الثقافة الغذائية في استخداماته الشائعة إلى معنيين مختلفين، المعنى الأول هو الدراية والمعرفة بفوائد ومضار أنواع الغذاء المختلفة، أما المعنى الثاني فيشير إلى العادات والتقاليد والأنماط السلوكية المسيطرة على تعامل أفراد المجتمع مع الغذاء. فعلى سبيل المثال يندرج إدراك فوائد ومضار أنواع الدهون المختلفة، تحت المعنى الأول للثقافة الغذائية. أما طريقة وكمية استخدام الدهون، بغض النظر عن أنواعها، فيندرج ذلك حينها تحت المعنى الثاني للثقافة الغذائية. هذا المعنى الثاني، والمقصود في هذا المقال، يمكن تقسيمه جغرافياً إلى أنواع مختلفة، منها الثقافة الغذائية الغربية، كتلك المنتشرة في الولايات المتحدة، وأوروبا، وأستراليا. والثقافة الغذائية الشرقية، كتلك المنتشرة في الصين، واليابان، وكوريا. والثقافة الغذائية الهندية، كتلك المنتشرة في الهند، وبنجلاديش، وباكستان. وحتى داخل الكتلة الثقافية الجغرافية الواحدة، أحياناً ما تتواجد أنواع مختلفة من الثقافات الغذائية. مثل ما يعرف بطعام البحر المتوسط (Mediterranean Food)، الذي يمثل الثقافات الغذائية لدول حوض البحر الأبيض المتوسط، ويصنفه البعض على أنه من أفضل الأنماط الغذائية على الإطلاق. وغني عن الذكر هنا، أننا إذا ما استخدمنا هذه التقسيمات الجغرافية والعرقية في تصنيف الثقافات الغذائية، فسنخرج بعشرات الأنواع المختلفة منها. وبعيداً عن الدلالات المطبخية للثقافات الغذائية، مثل الطعم، والروائح الزكية، وأنواع الزيوت، وكمية التوابل والبهارات المستخدمة، تحمل الثقافة الغذائية في مضمونها العديد من الدلالات الصحية والطبية، على صعيد ارتباطها باحتمالات الإصابة ببعض الأمراض، أو الوقاية من البعض الآخر. وهي الحقيقة التي اتضحت بشكل جلي هذا الأسبوع، مع نشر دراسة في إحدى الدوريات الطبية المتخصصة (Circulation)، التي تصدر عن الجمعية الأميركية لأمراض القلب. وخلصت هذه الدراسة التي كان أجراها علماء جامعة ماكمستر (McMaster University)، إلى أن انتشار نمط الثقافة الغذائية الغربية، قد أصبح أحد المخاطر الجسيمة، التي تهدد صحة دول وشعوب العالم المختلفة. وتوصل العلماء إلى هذه النتيجة من خلال متابعة العادات الغذائية لستة عشر ألف شخص، يقطنون 52 دولة مختلفة، على مدار أربعة أعوام. وبتحليل العادات الغذائية لهؤلاء، ورصد معدلات الإصابة بأمراض القلب بينهم، اكتشف القائمون على الدراسة أن من يتبعون نمطاً غذائياً غربياً، مرتفعاً في الدهون، والأملاح، واللحوم أيضاً إلى حد ما، قد زادت معدلات الإصابة بينهم بالذبحة الصدرية بنسبة 30%، مقارنة بمن يتبعون نمطاً غذائياً لا يحتوي على كميات كبيرة من الأملاح، أو الأطعمة المقلية، ويتضمن كميات كافية من الخضروات والفواكه. بينما ظل النمط الغذائي الشرقي، والمنتشر في شرق القارة الآسيوية، بدون تأثير يذكر على زيادة أو خفض احتمالات الإصابة بالذبحة الصدرية. وهو ما يعني أن الثقافة الغذائية الغربية، هي المسؤول الأول والمباشر عن ثلث حالات الإصابة بالذبحة الصدرية حول العالم، وهي النسبة التي تترجَم في النهاية إلى أعداد هائلة، في ظل كون أمراض القلب والشرايين تتسبب في ما بين 27% إلى 29% من بين جميع أسباب الوفيات البشرية، أو ما يساوي أكثر من 16 مليون وفاة سنوياً. وفي بعض الدول، كدولة الإمارات مثلاً، تحتل أمراض القلب والشرايين رأس قائمة أسباب الوفيات. وهو ما دفع الأطباء الى الإيمان بأن أية استراتيجية للوقاية من أمراض القلب والشرايين، لابد وأن تأخذ في الاعتبار الأسباب التي تؤدي إلى مرض هذه الشرايين وتصلبها من الأساس. وهذه الأسباب أو العوامل، المعروفة بعوامل الخطر، يؤدي وجودها إلى زيادة احتمالات التعرض لأمراض الشرايين، مثل التدخين، والسمنة، وارتفاع ضغط الدم، ومرض السكري، وارتفاع مستوى الكولستيرول، وغيرها. والملاحظ أن غالبية هذه العوامل، مثل السمنة، والسكري، ودهون الدم، ترتبط بشكل أو آخر بنوعية الغذاء، وهو ما يجعل الغذاء سبباً غير مباشر في الإصابة بأمراض القلب، ليس فقط على صعيد كمياته، وإنما أيضاً من جانب ما يحتويه، وما لا يحتويه أحياناً. فالمعروف أن غياب بعض المغذيات الضرورية من الغذاء، مثل مضادات الأكسدة، يؤدي أيضاً وبشكل مباشر إلى تدهور حالة جدران الشرايين، ومن ثم تصلبها وانسدادها. وهذا الارتباط المباشر أو غير المباشر بين الغذاء وصحة الشرايين وأمراضها، يجعل من المنطقي التفكير في أنواع وكميات الغذاء، كإحدى أهم الجبهات في السعي لتحقيق هدف الحفاظ على الشرايين ومنع تصلبها. وإذا ما خصصنا ارتفاع ضغط الدم بالذكر، فلا يمكن أن نغفل هنا أهمية تناول كميات أقل من ملح الطعام، الذي يسميه البعض "القاتل الصامت"، في خفض احتمالات الإصابة بأمراض القلب والشرايين، وفي خفض الوفيات الناتجة عنها. ويمكن تحقيق هذا التأثير الهائل على احتمالات الإصابة والوفاة من أمراض القلب، من مجرد خفض المتناول يومياً من ملح الطعام بمقدار ثلاثة جرامات، أو ما يعادل نصف ملعقة شاي. ولكن في ظل الانتشار المطرد والمتزايد للثقافة الغذائية الغربية، والمتمثل في افتتاح فرع جديد بين الحين والآخر لأحد مطاعم الوجبات السريعة الأميركية، في مدينة أو أخرى من مدن العالم، لا يأمل الكثيرون في وقوع انحسار قريب في ثقافة الأطعمة المقلية زائدة الملح، وهو ما سيترجم في النهاية إلى زيادة مماثلة في أعداد من تنسد شرايينهم وتتوقف قلوبهم يوماً بعد يوم.