نظمت جريدة "الاتحاد" منتداها السنوي لهذا العام تحت عنوان: "الدين والمجتمع في العالم العربي"، وهو موضوع في غاية الأهمية، وجمعت لذلك نخبة من الكُتاب المتميزين الذين اتصفت معالجتهم للموضوع بالجرأة والوضوح والنقد الذاتي. ولقد بينت أوراق العمل التي قدمت خلال المنتدى، والمناقشات التي تمت خلال الجلسات، أن هناك علاقة حتمية بين الدين والمجتمع، وأن هذه العلاقة لا تقتصر على العالم العربي بل تشمل العالم كله، وبالذات العالم الغربي، ولكن تختلف هذه العلاقة من مجتمع إلى آخر. وبقدر ما تكون هذه العلاقة واضحة ومحددة ومتوافق عليها بين أفراد المجتمع بقدر ما تتقدم هذه المجتمعات وتزدهر، وإن اضطراب هذه العلاقة يؤدي الى صراعات لا حدود لها ولا يمكن أن يكون فيها غالب أو مغلوب، بل تستمر على مدى أجيال وكأنها صراعات لا نهاية لها، وكلما طالت مدتها تعقدت أكثر واستعصت على الحل بصورة أشد. إن العالم العربي يدفع ثمن الخلل في هذه العلاقة بالتخلف والفقر والإرهاب وغيرها من الآفات التي تنخر في جسده وتجعله نشازاً في ركب الحضارة في هذا العصر. وقد برز بوضوح أن هناك توافقاً حول أهمية دور الإسلام في المجتمع العربي، وأنه لا يمكن إقصاء الإسلام من التأثير في المجتمعات والأفراد، ولكن الخلاف حول طبيعة هذا الدور وبالذات في ضوء الاستغلال السيئ لبعض الجماعات الدينية للإسلام واستخدامها له كمطية لتحقيق أهدافها السياسية التي من أبرزها الوصول إلى السلطة، بل وتوظيفها للنصوص الشرعية في صراعاتها مع الآخرين وفي صراعاتها فيما بينها، والتي استطاعت أن توجد قناعات عند أتباعها بأنها تمثل الإسلام، وأن الاختلاف معها هو اختلاف مع الإسلام، ونصبت نفسها وكأنها المتحدث الرسمي باسم الإسلام، وأن أي فهم أو تفسير له ينبغي أن يتم من خلال رؤيتها هي فقط، وأن أي طرح غير ما تطرحه هو ضلال وانحراف عن هذا الدين، وأن فاعله يجب أن يتوب إلى الله من هذا الأمر وإلا فإنه حلال الدم والمال وزوجته طالق، وأنه لا يرث ولا يورث، ولا يدفن في مقابر المسلمين. وقد أوجد هذا رهبة كبيرة لدى الكثير من علماء الدين المعتدلين في توجيه الأمة خشية التصادم مع هذه الجماعات، واتقاء لشرها، وبالذات أنها تملك من وسائل التشهير الكثير عبر وسائل الإعلام المختلفة كالقنوات الفضائية والصحافة ومنتديات الإنترنت، وأنها تجيد استخدام أساليب الكذب والافتراء على المخالفين، وتضفي عليها شرعية دينية تجعل الاتباع يتقبلونها بدون مناقشة بل ويتبنونها ويدافعون عنها كما يدافعون عن الإسلام، ويعتبرون التشهير بهذا العالم "جهاداً" في سبيل الله وحماية للإسلام من العلماء "المأجورين"! وهنا تتجلى مسؤولية النخبة في المجتمع العربي في ضرورة التصدي لمسألة العلاقة بين الدين والمجتمع، والعمل على إصلاح هذه العلاقة بعيداً عن التشنجات الفكرية من غير إفراط ولا تفريط. وتشجيع علماء الاعتدال الذين يعبرون عن نقاء الإسلام وصفائه على القيام بدورهم في تصحيح هذه العلاقة، وأن يتحملوا مسؤوليتهم في توجيه الأمة بدلًا من هذا الفراغ الذي يعمل على اسغلاله والاستفادة منه في الحديث باسم الإسلام من هب ودب. والخلاصة أن لدى المثقفين العرب الكثير مما يمكن أن يقدموه لخدمة مجتمعاتهم إذا أتيحت لهم الفرصة في جو من الحرية والمشاركة كما فعلت "الاتحاد" في هذا المنتدى.