مثلما أثبتت العلوم الإنسانية أنه لا توجد حقيقة مطلقة، فقد اثبتت أزمة المال العالمية الحالية كذلك أنه لا توجد حرية سوق مطلقة، فالحقيقة دائماً نسبية، مثلما الحرية نسبية بدورها. وبعيداً عن الجدل الفلسفي، دعونا نبحث عن الإيجابيات التي يمكن الخروج بها من هذه الأزمة، وذلك على رغم الأجواء الكئيبة والملبدة بالغيوم السوداء التي تلف مختلف أجواء بلدان العالم واقتصاداته، حيث يحاول كل بلد بصورة منفردة أو جماعية البحث عن مخرج أو التقليل من الخسائر على أقل تقدير. معظم الكتابات ووسائل الإعلام تحدثت عن السلبيات والعواقب التي تنتظر بلدان العالم كبيرها قبل صغيرها، إذ ربما يصعب الحديث عن إيجابيات، أما إذا ما انطلقنا من نسبية الحقيقة التي ذكرناها في البداية، فإن هناك إيجابيات دون شك. أولى هذه الإيجابيات تكمن في انتهاء هيمنة القطب الواحد في العلاقات المالية الدولية، وهو أحد أهم الأسباب التي أدت إلى حدوث هذه الأزمة. وحتى أشهر قليلة مضت كانت استثمارات العالم، شرقه وغربه، تصب أساساً في "وول ستريت" التي كانت تمطر ذهباً، أما الآن، فإن الكل يهرب بعيداً عن هذه التسمية التي تعني باختصار الإفلاس. وفي الوقت الحاضر هناك مناطق جذب استثمارية كبيرة تتبلور في أوروبا وآسيا، بما فيها منطقة الخليج، ما يعني المزيد من الاستقرار في النظام المالي العالمي، وهذه مسألة في غاية الأهمية لإعادة هيكلة العلاقات الدولية في مرحلة ما بعد الأزمة، وخصوصاً أن القطب الأوحد السابق يعاني من مشاكل اقتصادية هيكلية ستستمر لفترة طويلة قادمة. ثانية هذه الإيجابيات تتمحور حول إعادة صياغة للأنظمة والقوانين التي تنظم عمل المؤسسات المالية العالمية، وبالأخص صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية التي لم يكن بالإمكان اكتساب عضويتها بدون ضوء أخضر من "وول ستريت". والحال أن الأنظمة السابقة كانت ملائمة لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وما تلاها من حرب باردة، إلا أنها غير مناسبة لمرحلة العولمة وبروز قوى اقتصادية جديدة ومؤثرة في العلاقات الدولية، ففي الوقت الذي يصل احتياطي النقد الأجنبي في الصين إلى 1900 مليار دولار، فإن عجز الموازنة الأميركية وصل إلى ألف مليار دولار وهو ما يشكل 6.5 في المائة من الناتج المحلي الأميركي، علماً بأن نسبة الأمان هي 3 في المائة، هذا ناهيك عن التقدم الذي أحرزته أوروبا في ظل عملتها الموحدة "اليورو" والمكاسب التي تحققها في هذا المجال. والإيجابية الثالثة تتعلق بتغير خريطة العالم الاستثمارية والفرص التي ستقدمها مناطق الاستقطاب الجديدة التي توفر ضمانات وفرصاً استثمارية لرؤوس الأموال العالمية، وذلك بالتزامن مع إعادة تكوين العلاقات التجارية من خلال منظمة التجارة العالمية التي تتيح التخصص بناء على الأفضليات الإنتاجية التي تتمتع بها كل دولة، مما يتيح لدول مجلس التعاون الخليجي والبلدان العربية بشكل عام فرصاً نادرة، وذلك إذا ما استطاعت استغلال هذه الفرص التي ستتمخض عن الأزمة الحالية. والإيجابية الرابعة أن النظام المالي والمصرفي العالمي القادم سيتميز بالرقابة والشفافية والحوكمة المعولمة التي ستشمل إجراءات جماعية، بما في ذلك الحد من استخدام المشتقات المالية غير الملائمة بهدف تعظيم الأرباح وتضخيم الثروة بصورة مصطنعة لا تعبر عن حقيقة قيمة الموجودات المتداولة، وهذه مسألة مهمة لأجهزة الدولة الرقابية التي نحيت جانباً وتم تجاوزها من قبل الشركات المالية ومدرائها التنفيذيين الذين حققوا مكاسب خيالية بفضل التلاعب بأدوات هذه المشتقات. وأخيراً، فإن إحدى إيجابيات هذه الأزمة تدور حول غياب مؤسسات مالية ونقدية عملاقة هيمنت على أسواق المال والنقد في العالم لعقود طويلة، مما يفتح المجال أمام مؤسسات جديدة لملء الفراغ والتأسيس لتقاسم جديد في العمل المالي والاقتصادي الدولي. ورب ضارة نافعة، هذه هي الخلاصة التي يمكن الخروج بها من تداعيات الأزمة المالية التي تعصف بأسواق المال في العالم، والمطلوب استخلاص العبر والدروس من ثنايا الخسائر التي تكبدتها بلدان العالم وتسخير هذه العبر والدروس لإعادة النظر في الكثير من القضايا المتعلقة بالاستثمار وتوظيف الأموال في المؤسسات المالية في العالم. وضمن هذه الدروس، يمكن إيجاد علاقة صحيحة بين استثمار الأموال السائلة التي يمكن أن تتبخر في غضون ثوان محدودة، وبين الاستثمار في أصول ثابتة يمكنها أن تستعيد قيمتها بشكل عام متى ما استعاد الاقتصاد العالمي عافيته، وهذه حقيقة أدركتها بلدان العالم حالياً أكثر من أي وقت مضى.