كنت أعتقد أن صعود التدين الشعبي وزيادة عدد الملتزمين بالدين بشكل كبير ومطلق ومن يشكل الدين كل شيء في حياتهم، أمر يميز المجتمع العربي بالدرجة الأولى والمجتمع الإسلامي كذلك، لكن الذي يبدو واضحاً أن هذا الالتزام بالدين والذي يطلق عليه "التدين" مسألة باتت تنتشر بين أغلب- إنْ لم يكن كل- شعوب الأرض. الدين والمجتمع في العالم العربي قضية في غاية الأهمية والحساسية كانت عنوان منتدى جريدة "الاتحاد" السنوي الثالث يومي الاثنين والثلاثاء الماضيين، والذي كان للمشاركين فيه آراء متنوعة ومختلفة، لكنها اتفقت على أمر مهم هو أن الدين في المجتمع العربي بحاجة إلى اهتمام أكبر حتى لا يستأثر به تيار الإسلام السياسي الذي استغل الدين لأهدافه الخاصة على مدى عقود مضت. ومن المحاور المهمة التي أثيرت في جلسات المنتدى، قضية "صعود التدين الشعبي" وواضح من خلال المناقشات أن هذا الصعود في التدين الشعبي لا تستأثر به الدول العربية أو الإسلامية فقط، فحتى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، وربما دول آسيا أيضاً بدأ فيها التدين الشعبي يصعد بشكل ملفت مؤخراً. هذا "الصعود" الذي يعتبره الكثيرون طبيعياً في الخليج والدول العربية يعتبر مقلقاً فقط لأنه يمكن أن يخلق بيئة خصبة لحركات الإسلام السياسي كي تبث أفكارها بين أفراد المجتمع من المتدينين... وللأسف فإن هذه الجماعات من خلال عملها على مدى العقود الماضية تمكنت من التغلغل في مفاصل المجتمع وبالتالي التأثير فيه بل وأخذه في الاتجاه الذي يخدم مصلحتها. إن إشكالية التدين الشعبي في المجتمعات العربية تكمن في أنه يتطور مع الوقت في الشكل، بحيث تبدأ جماعات الإسلام السياسي في بسط نفوذها على أفراد المجتمع، لذا فإننا في مجتمعاتنا بحاجة إلى جهد حقيقي للحافظ على المتدينين من المسلمين، لأننا صرنا نعاني من زيادة التيارات الدينية المتطرفة التي تأخذ الدين بعيداً وتخطف التدين والمتدينين... ومن المهم أن يقابل هذا الصعود في التدين الشعبي صعود في اهتمام الدولة بهذا التدين وحماية المتدينين من اختراقات جماعات التطرف والتشدد والخرافات. خطورة التدين الشعبي وصعوده في الدول العربية ليس في المتدينين المؤمنين وإنما في الذين "يختطفون" هذا الصعود وهم المتطرفون وبالتالي يتحكمون فيه، وبذلك يكون المجتمع أمام إشكالية احتمال مواجهة تدين شعبي متطرف وهذا ما يجعلنا نقف طويلاً أمام هذا الصعود السريع، لأن تجاهل هذا الصعود يعني الدخول في نفق مظلم والعيش في مجتمع متطرف وعنيف ولا يقبل الآخر. نتائج صعود التدين الشعبي غير المضبوط بضوابط الشرع الإسلامي الحنيف الحقيقية لا تظهر إلا بعد عقود، لذا يجب العمل من الآن لتحصين المجتمعات والمتدينين من أفكار المتطرفين من أفراد جماعات الإسلام السياسي. فلا أحد يحق له منع أي إنسان من التدين وتقوية علاقته بربه وبخالقه، فهذا الحق مشروع، لكن المجتمع العربي بحاجة في حال الصعود السريع للتدين الشعبي أن يحصن ضد تلك الأفكار المتطرفة التي كانت وما تزال تستغل الدين لترويج أفكارها الهدامة. المشكلة أن المجتمعات العربية كانت وما تزال تقاوم الحداثة والتطور والانفتاح وباسم الدين يرفض بعض أفراد المجتمع التحديث والتطور الفكري الثقافي والاجتماعي... وأداة محاربة هذه الحداثة كانت الدين الذي برع أفراد الجماعات الإسلامية في استخدامه لتشويه الحداثة والتطور، وكأنه شر كله لا خير فيه بل ويؤدي إلى الابتعاد عن الدين على الرغم من أن الدين الإسلامي هو أكثر الأديان التي تدعو إلى العلم والتحديث والتطور والتقدم والانفتاح على الآخر! كما أن جماعات الإسلام السياسي على مدى العقود الماضية تمكنت من إبطاء نمو وتحديث المجتمع العربي والمسلم وأوصلتنا إلى هذه المرحلة التي صرنا نسمع فيها الأسئلة الغريبة في برامج فتاوى الفضائيات والراديو التي تكشف مدى سطحيتنا وجهلنا... ومدى التخلف الفكري والحضاري الذي صرنا نعيش فيه، رغم أننا نعيش في القرن الحادي والعشرين ورغم التطور المادي الصارخ الذي نعيش فيه. بشكل عام لابد أن نعترف بأن التدين ظاهرة إنسانية موجودة في كل المجتمعات وستستمر ما دام الإنسان يمارس عباداته وشعائره الدينية، وليس هناك اعتراض على التدين إذا كان من أجل تقوية علاقة الإنسان بربه وترسيخ إيمانه، لكن المشكلة والخطورة تظهر عندما تختطف الأفكار والجماعات المتطرفة هذا التدين فتتحكم به وتحركه ويصبح الدين والتدين شكلياً يستخدمه تيار الإسلام السياسي لتحقيق أهدافه الخاصة... ولقد نجحت الجماعات الدينية المتطرفة على مدى عقود في أن تبث المظاهر السلبية للتدين كأن يصوروا الشخص المتدين على أنه أفضل من الآخرين، وأن حالة التدين التي يعيشها تعطيه الشرعية للاستعلاء على الآخرين واعتبارهم أقل منه شأناً، وبالتالي فرض أفكاره وتوجهاته عليهم... كما أنه مع مرور الوقت تمكنت الجماعات الدينية المتطرفة من تحويل واستخدام الدين إلى أداة لملاحقة الآخرين وتقييم سلوكهم وتصرفاتهم تحت معيار الحلال والحرام... ثم ذهبت بعيداً في ذلك عندما بدأت بالبحث في نوايا الآخرين والحكم عليها! ومن أبسط مخاطر استغلال جماعات الإسلام السياسي للدين أنها توقع المتدين في الخطأ دون أن يشعر، بحيث يتسبب في تشويه صورة التدين والدين القائم على الرحمة والتسامح ومكارم الأخلاق والانفتاح والتواصل مع الآخر... إلى الشدة والعنف والانعزال، وبالتالي يؤدي الأمر إلى أن يفضل كثير من الناس الابتعاد عن الشخص المتدين لما يثيره من عداءات وحدة في التعامل... وابتعاد الناس عن المتدينين يعني بالضرورة تفرد واستفراد المتطرفين بهم. القوى المتمسحة بالدين يجب أن تفضح لدى المجتمع وأن يتم تمييزها عن المتدينين الحقيقيين... هناك مسؤولية كبيرة يتحملها المجتمع اليوم والمثقفون والمسؤولون كي يكشفوا تلك البؤر الفكرية الفاسدة التي تعمل على التغرير بالشباب واستغلالهم لتحقيق أهدافها التخريبية، فما الذي يدفع شاباً في مقتبل العمر لم يتجاوز العشرين من عمره إلى أن يكون مستعداً للعمل على تخريب بلده وتقويض إنجازاته وزعزعة الأمن فيه؟! وأي دين وأي شرع يقر ذلك أو يدعو إليه؟! لا شرع غير شرع المجرمين. كما أنه من المهم أن يتم فك الاشتباك والالتباس عند أفراد المجتمع ومساعدتهم كي يعرفوا الفرق بين التدين وبين التورط مع جماعات الإسلام السياسي التي تدعي التدين لتحقيق مصالح مادية وسياسية... ولقد رأينا في أكثر من نموذج عربي كيف تكون النتائج عن تصاعد جماعات الإسلام السياسي العنيفة التي لا تعرف إلا لغة القوة... وما فعله ويفعله "الإخوان المسلمون" وهم أساس البلاء وبؤرة العنف الديني عند المسلمين وهم الصندوق السحري الذي يخرج للمسلمين الجماعات الدينية المتطرفة التي لا تعرف إلا العنف، وهذا ما بات واضحاً للجميع... وهم أكثر من يستغل المتدينين.