كان لافتاً أن الأزمة المالية العالمية استدعت عند البعض في العالم العربي أصداءً من الجدل الذي كان محتدماً في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي بين أنصار الاشتراكية مقابل الرأسمالية، والجدل داخل الإطار الرأسمالي بين المدرسة التي تؤمن بحرية السوق مع أقل تدخلات أو قيود من الدولة، وبين تلك التي تؤكد على ضرورة تدخل الدولة في ضبط حركة السوق. هنا قضيتان ليستا منفصلتين تماماً: الاشتراكية مقابل الرأسمالية، والجدل الفلسفي والأيديولوجي بين مدرستين داخل الفكرة الرأسمالية. بالنسبة للقضية الأولى قد يكون ذا صلة هنا الإشارة إلى أن الأزمة المالية الأولى التي عصفت بالنظام الرأسمالي في ثلاثينيات القرن الماضي قادت إلى الحرب العالمية الثانية. بعد هذه الحرب دخل النظام الرأسمالي في حالة نمو كبيرة استمرت حتى نهاية عقد الستينيات، أي أن النظام الرأسمالي استطاع تجاوز الأزمة. مع بداية عقد السبعينيات عانى النظام الرأسمالي من حالة انكماش، ليعود إلى النمو مع عقد التسعينيات. حالياً يتوقع أن تدخل الرأسمالية حالة كساد نتيجة للأزمة الأخيرة. في المقابل نجد أن الاشتراكية حققت نجاحات كبيرة بعد الحرب العالمية الأولى، وخاصة بعد الحرب الثانية. لكنها ابتداء من نهاية عقد الستينيات بدأت تعاني من أزمة أخذت تتصاعد إلى أن انتهت بانهيار النظام الاشتراكي بأكمله مع أواخر الثمانينيات. مع أن المقارنة هنا تتضمن أكثر مما يبدو على السطح، إلا أن نتيجتها واضحة ومباشرة. يمتلك النظام الرأسمالي مساحة أكثر من المرونة وحرية الحركة للتأقلم، وتصحيح الأخطاء مقارنة مع الاشتراكية. ربما أن هذا الاختلاف لا يتعلق بمضمون كل من فكرتي الاشتراكية والرأسمالية، بقدر ما يتعلق بالنظام السياسي الذي تمخض عن كل منهما، وبالأيديولوجيا التي تبناها. لكن لا يمكن في الوقت نفسه تفادي حقيقة أن النظام السياسي يمثل الفكرة الفلسفية التي يستند إليها، وانعكاس للبنية الاجتماعية التي ولد في داخلها. على مستوى الجدل داخل الرأسمالية ذاتها، يمكن ملاحظة أن الأزمة الخانقة التي عصفت بالاقتصاد العالمي في ثلاثينيات القرن الماضي، والأزمة الحالية التي تحمل في طياتها كما يقول خبراء الاقتصاد والمال مخاطر كبيرة، تقول بأن التاريخ يقف إلى جانب مدرسة تدخل الدولة لضبط حركة السوق. وذلك لأن السبب في كلتا الأزمتين يعود إلى أن ترك السوق لآلياته انتهى في الحالتين إلى كارثة اقتصادية. وفي كلتا الحالتين أيضاً كان لابد من تدخل الدولة لإنقاذ الموقف. من ناحية أخرى، قد يقول أنصار مدرسة حرية السوق بأن المسافة الزمنية بين الأزمتين، أكثر من سبعين سنة، تبرهن على صحة ونجاعة حرية السوق بأقل الضوابط. فأزمة مالية يمكن تجاوزها كل سبعين سنة، أفضل من سوق يخضع لرقابة الدولة وقيودها ينتهي به إلى اختناق قد لا يشفى منه، بل قد يؤدي إلى انهيار الدولة بأكملها. يمكن لأصحاب هذه المدرسة الاستشهاد بالتجربة الاشتراكية وما انتهت إليه، بما في ذلك الاتحاد السوفييتي، أول تجربة تطبيقية لفكرة السوق الموجه من قبل الدولة. ثم إن القول بحرية السوق وعدم تدخل الدولة لا يتضمن أن الحرية تعني حصانة أبدية للسوق ضد مخاطر نابعة من عيوب وأخطاء الإنسان. المشكلة في هذه الحالة، حسب هذا الرأي، ليست في بنية النظام الحر، بل في الإنسان وما يعتري سلوكه من انحرافات. لكن الإشكالية في موقف مدرسة حرية السوق من تدخل الدولة تكمن في الإصرار على الجمع بين متناقضين: الإيمان بحرية السوق بناء على حياد بنيته، والقناعة بأن غريزة الإنسان مجبولة على التجاوزات والأخطاء. الإنسان هو الذي يصنع النظام. والإنسان هو الذي يتولى تطبيقه أيضاً. كيف يمكن الفصل بينهما؟ هذا الترابط بين الإثنين هو ما يفرض ضرورة تدخل الدولة في السوق لوضع ضوابط تحميه من الأخطاء والانزلاقات. فكرة السوق تقوم في جوهرها على الجمع بين المصلحة العامة والمصلحة الفردية أو الشخصية. ومن ثم فإن ترك السوق من دون تدخل الدولة يعني تركه لنزعات الإنسان الغريزية، مما يجعله نهباً لفوضى المصالح الفردية. في غياب وازع القانون تصل قابلية الغريزة الإنسانية للانحراف والشطط إلى ذروتها. اللافت أنه لا أزمة الثلاثينيات ولا الأزمة الحالية حدثت في غياب تدخل الدولة وقيودها. بل حدثت بسبب أن تلك القيود كانت في حدها الأدنى فقط. من ناحية أخرى، لم يحدث أن ترك السوق لآلياته حتى بعد انفجار الأزمة، لنرى إن كان قادراً على تجاوزها من دون أي تدخل للدولة أم لا. ولعله من الواضح أن السماح بشيء من ذلك يمثل مخاطرة لا يتحمل المجتمع الإقدام عليها. فالسبب الرئيسي في حدوث مثل هذه الأزمات الكبيرة هو سيطرة النزعة الفردية الأنانية في ضوء غياب آليات ضبط تمثل مصلحة المجتمع، وليس أفراد أو مؤسسات فردية داخل السوق. لا يمكن لآليات السوق أن تمارس دورها في غياب الدولة. الافتراض الضمني الذي تقوم عليه نظرية حرية السوق هو جماعية وحياد آليات السوق. وهذا وهم أكثر من كونه فرضية منطقية. وربما أنها مصادفة تاريخية أن أزمة العشرينيات حدثت قبيل حكم إدارة "ديمقراطية". والأزمة الحالية حدثت تحت إدارة "جمهورية" متطرفة في إيمانها بفكرة حرية السوق، وبالحد الأدنى من تدخل الدولة. ومع ذلك جاءت استجابة كل من الإدارتين متشابهة. كلاهما لم يجد بداً من تدخل الدولة لإنقاذ الموقف. تصرفت إدارة روزفلت انطلاقاً من قناعتها بدور الدولة الحيوي في ضبط السوق. أما إدارة بوش الحالية فلم تأت استجابتها من واقع قناعتها، وإنما تحت ضغط الضرورة خوفاً من عواقب كارثية على الاقتصاد الأميركي. وقد أوضح الرئيس بوش بأن خطة الإنقاذ التي ضغطت إدارته على الكونجرس لتبنيها، والتي ستكلف دافع الضرائب الأميركي ما يقرب من التريليون دولار أميركي، لا تعني بأي شكل التخلي عن مبدأ حرية السوق. حيث قال بوش في خطابه الأخير "أنا أعرف أن الكثير من الأميركيين لديهم تحفظات على مقاربة الحكومة للأزمة الأخيرة، وخاصة حيال السماح للحكومة بامتلاك أسهم في البنوك الخاصة. وكمؤمن قوي بحرية السوق، سوف أعترض على مثل هذه الإجراءات في الظروف العادية. لكن هذه ليست ظروفا عادية." وبوش لا يعتبر أن ما قامت به إدارته مؤخراً شكلاً من أشكال التأميم. بل يعتبر أن خطة إدارته لإنقاذ المؤسسات المالية من خلال شراء أسهم فيها، تدخل محدود من حيث الحجم، ومن حيث المدى، والمدة الزمنية. بعبارة أخرى، هو تدخل محدود ومؤقت قبل العودة مرة أخرى إلى مبدأ حرية السوق. هل تعني الأزمة الأخيرة خللاً خطيراً في فكرة الليبرالية؟ أو إيذاناً بأفول هذه الفكرة، كما يقول البعض؟ هنا يبدو الخلط بين فكرة الليبرالية، وفكرة حرية السوق من قيود تدخلات الدولة. الفكرة الأخيرة تفريع، أو قراءة واحدة لمبدأ الليبرالية. والذي انكشف في الأزمة هو خطورة هذه القراءة تحديداً. وكما لاحظنا، هناك قراءة أخرى مختلفة لليبرالية الاقتصادية، أو تلك التي تؤكد على دور الدولة لضبط حرية السوق. من ناحية ثانية، أثبتت الأزمات حتى الآن أن أصحاب حرية السوق يخضعون في الأخير لمبدأ تدخل الدولة عند الضرورة. ثم إن النظام الديمقراطي المتولد عن فكرة الليبرالية، ورغم كل ما يعانيه من نواقص، يسمح بإعادة التوازن للنظام الرأسمالي من خلال إخراج أنصار حرية السوق، خاصة بعد حدوث الأزمة، من الحكومة والإتيان بأنصار مبدأ تدخل الدولة في السوق. هذه وغيرها آليات سمحت للنظام الرأسمالي أن يتعامل بنجاح حتى الآن مع التناقضات التي يعاني منها، وهي التناقضات التي استند إليها ماركس في نقده الصائب للرأسمالية. على مستوى آخر، هناك خلط بين مستقبل الرأسمالية كنظام، واستنادها إلى الأيديولوجيا الليبرالية، في ظل الأزمة الحالية، وبين الدولة الأميركية، أو كعبة الرأسمالية في العالم. رغم العلاقة بينهما إلا أن كلا منهما تمثل إشكالية مختلفة عن الأخرى. قد تمثل الأزمة الحالية مؤشرا آخر، وربما أكثر خطورة، على تراجع القوة الأميركية. لكن ليس هناك ما يشير إلى أنها تمثل تراجعا لفكرة الليبرالية. هي أزمة ليبرالية، تتم معالجتها داخل الليبرالية، وبآليات رأسمالية ليبرالية. ليس هناك حلول خارج هذا الإطار، مثلا، بروز أيديولوجيا مناقضة لليبرالية، كما كان عليه الأمر في النصف الأول من القرن الماضي. يبدو أن السر يكمن في فكرة الحرية. حتى أمام أخطر الأزمات تبدو الحرية هي السبيل الأنجع للخروج منها.