يبدو أن الجمع السياسي الحاشد في الخرطوم أيام 16 أكتوبر الجاري وما بعدها باسم "مبادرة أهل السودان"، قد مال إلى التعبير عن معنى التظاهر السياسي بأكثر مما رغب في تأكيد حلول تم التفاوض بشأنها مسبقاً، ولو من حيث المبدأ، كما تصورت مع غيري من المراقبين. وليس مألوفاً أن يجدي التفاوض الجماعي لحل أزمة في بلد ما وسط المظاهرة، وإنما تأتي التظاهرة لتبشر بما يبدأ به الحل. ولذلك حين نبه بعض متحدثي الافتتاح إلى قيمة اجتماع أبوجا السابق بين الأطراف، وحين تجاهلته كلمات المسؤولين الحكوميين، فهمت بداية أن "أهل السودان" مقبلون على "ونسة" سياسية بأكثر من قدرة هذا الحشد على التوصل خلال ثلاثة أيام إلى شيء حقيقي أو واقعي بالفعل. والإشارة إلى "أبوجا" التي أعنيها هي إشارة إلى أن الحشد بدا هناك أكثر مصداقية، بل لأنه كان قوياً بالفعل خرج عليه البعض بالانسحاب أو الإنكار، كما أن ما صدر عنه -مهما اختلف البعض معه- كان مبادئ تأسيسية لاتفاق ممكن لو شاءت الأطراف المختلفة دفعه بجدية أكبر. إن ذكر "أهل السودان" كان يجب أن يقترن بكونه "آخر الأحزان" على الموقف المتهرئ الذي تعيشه كل الأطراف الآن، وكلها في مأزق غريب بعيداً عن طموحات أهل السودان! فهل يعتبر المنظمون لملتقى أهل السودان أن غياب كل هذه الأطراف عن الملتقى خارج المعنى الذي يشكله "الملتقى"؟ هل غياب كل الأطراف من أبناء دارفور بهذا الشكل لا يحمل معنى عميقاً للمؤتمر، وحتى حضور "مناوي" المفاجئ باسم أبناء دارفور عبّر عن طبيعته المحدودة، بالخطاب المتردد والمتقطع الذي لم يشأ أن يقدم أي وعد حقيقي. يقدر أي مراقب ضغط عامل الوقت الذي يحكم الرئاسة والحكم كله في السودان. إذا كان يلزم طبعاً مواجهة التحركات حول المحكمة الجنائية الدولية، والتي بدأت تناقش موضوعات الاتهام للحكم والرئاسة في اليوم التالي لافتتاح "ملتقى أهل السودان"، كما يبدو القرار بطلب أدلة إضافية على التهم من السيد أوكامبو، تبشيراً ونذيراً في نفس الوقت، وكنا نتمنى أن نقول إنه انتظار لنتائج ملتقى أهل السودان، لو أن هذا الملتقى كان يبشر بشيء حقيقي بالفعل مما كان يمكن أن يحول كافة الاتجاهات الدولية نحو أهل السودان وليست المحكمة وحدها! إنني أكتب هذه السطور، والملتقى لم ينته بعد، ولعلها فرصة أن تطرح بعض الأسئلة -بل وبعض المعلومات- الخطيرة، وأن ننظر مع القارئ كيف سيشتبك الملتقى معها سلباً أو إيجاباً، وهذا مفيد لقراءة المستقبل القريب. هل سينتهي المؤتمر إلى كشف نوايا جديدة لدى الرئيس حسن البشير عن نيته في عدم استمرار انفراد حزب "المؤتمر الوطني"، الذي يرأسه بالانتخابات القادمة أمام "الحركة الشعبية" قائدة الجنوب؟. أو أن صيغة "ثنائية الحكم" ستظل في بلد الخمسين حزباً أو أكثر، هي صيغة عقد قادم آخر من الزمان، في وقت نبشر فيه باقتسام السلطة والثروة كما وردت في نيفاشا وأبوجا على السواء؟ إن خطاب الرئيس البشير المفعم بالبلاغة العربية مازال للأسف يتحدث عن "حوار" لا قرارات تشكل إغراء للبعض على الأقل، ثم يتحدث عن وحدة السودان بشكل الفيدرالية "القائمة"، كما يتحدث عن الاتفاقات المبرمة إشارة إلى نيفاشا والاقتسام مع طرف معين دون غيره. وهذه كلها تشير إلى أننا مازلنا عند نقطة الصفر، ووضعت "النظام" مجدداً، بل وحشرت معه بعض أهل السودان، في عملية رفض شملت تقريباً أهل دارفور جميعاً، لأن "خطاب الافتتاح"، لم يشأ أن يقدم أية وعود، لحين الخروج بتوصيات من كنانة أو الخرطوم ليدور حولها "الحوار". وتبقى مشكلة "السودان مع دارفور" قائمة، وليست "المشكلة الدارفورية" ضمن الحلول الوطنية الديمقراطية المطلوبة للسودان كله، وحتى "مع دارفور" لم يحضر أحد نحاسبه على القبول والرفض. هنا يدخل الإحساس بالجدية في غياب الأطراف المعنية، وغياب آلية الاتصال بالغائبين. وهؤلاء لا يجدي معهم إلا ما كان متوقعاً من الملتقى من إعلان النظام الحاكم عن بعض الإغراءات المباشرة السابقة الإشارة إليها في أبوجا، بشأن وقف إطلاق النار، وتيسير عمل منظمات الإغاثة، ومشاكل النازحين وإعادة تأهيلهم أو تعويضهم أو تيسير سبل الحياة مباشرة لهم، وهم جزء من الوطن تعرض للتشريد والقهر والحرمان. وكان يساعد في ذلك تقديم ورقة عن تغيير النظام الفيدرالي بصورته الراهنة، التي أدت إلى تقسيم دارفور وغيرها، وهناك خبراء سودانيون فضلاء عملوا ولهم آراء في هذا الحقل، وقالوا فيه ما يستحق المناقشة في مثل هذا الملتقى من آدم الزين (ورقته الأخيرة أمام الحزب الشيوعي) إلى كتابات عبدالله علي إبراهيم، ومقترحات "التجمع" وغيرها. كانت هذه المبادرات المبكرة، يمكن أن تعفي الحكم في السودان من: شكوك التظاهر قبل انعقاد مجلس الأمن أو المحكمة الدولية، أو ترضية بعض الأطراف الداعمة عربياً وأفريقياً ودولياً (بدليل زعم البدء في محاكمة السيد قشيب لشرط توفير مزيد الأدلة أيضاً) أو لكشف موقف المعارضين من أبناء دارفور إزاء انقساماتهم وارتباط موقفهم بموقف السيد حسن الترابي بما عليه من علامات الاستفهام، وإنْ كان إجماع الرفض يشمل حركة "تحرير السودان" مع حركة "العدل والمساواة". وغيرها جاء ليخرج الترابي وغيره من مأزق الانفراد بالمعارضة، أو يبقيه للمساومة عند دعوة قطر لإجماع المبادرة. واللافت أيضاً أن موقف التجمع "الوطني الديمقراطي" أو بالأحرى الاتحادي جاء كعادته حريصاً على التوازن. ويبدو أن مصر نفسها ساعدته في ذلك بين الحضور وتسجيل الموقف، وبين حديث مسؤول الحزب الإعلامي بالخارج الذي يصف الملتقى "بعدم الجدية" لا في الحوار مع الأحزاب الأخرى ولا في اعتبار نفسه جزءاً من الأزمة لا يجوز أن يكون فيها خصماً وحكماً... الخ. أما أكبر المسائل التي تشتبك مع ظروف الملتقى وأجواء المظاهرة، فهي الأخبار الواردة عن نشاط تسلح الجنوب في هذه الفترة الحرجة، وهل أن ذلك مقصود أصلًا، بحيث يبدو الجنوب عنصر ضغط -مرة أخرى بدوره- أم أن الجنوبيين يردون على ضربة الحكم لهم في أبيي بقوة السلاح من قبل، أم استعداد لمعركة شديدة إزاء استمرار طرح "ثنائية الحكم" رغم ازدواج الجنوبيين بين الحكم والمعارضة؟ أم ترى أن ثمة خططاً دولية أخطر بشأن صياغة القرن الأفريقي وشرقي أفريقيا متضمنة الجنوب وليس السودان الموحد؟ إن لغة وزير الخارجية السوداني (الجنوبي) بل "ومستشار" رئيس حكومة الجنوب في تبرير وصول شحنات الأسلحة إلى الجنوب، وعدم "الدهشة" من إشاعات وصول 300 دبابة روسية الصنع إلى جانب الصواريخ إلى الجنوب، إنما تفتح ملفاً آخر أخطر من "الملفات البحثية" أمام ملتقى أهل السودان.