لا مجال لإغراق "حماس" أكثر مما هي غارقة، بل مرتضية بهذا الغرق الذي يعوّم بنظرها خيار المقاومة، على رغم التهدئة، ولا مجال كذلك لإنقاذ السلطة الفلسطينية أكثر مما هي منقذة، حتى لو لم تكن مرتاحة إلى وضعها الذي يعزز بنظرها خيار التفاوض، على رغم الفشل، ولا مجال لإتعاس الشعب الفلسطيني أكثر مما هو مبتلى بالاحتلال من هنا وبالانقسام من هناك، لكنه يعرف كيف يعيش ويبقى، على رغم الأعداء والأشقاء القريبين والبعيدين. كل المقدمات السلبية التي سمعناها طوال أسابيع تمخضت فجأة عن نتيجة إيجابية، كيف؟ حتى الراسخون في العلم لم يستطيعوا أن يفكوا الطلسم، وقبل أن يجري الحوار الموعود والمرتقب أعلنت -تقريباً- النتيجة. أصبحت المصالحة ممكنة، ضرورية، حتمية، كل ما يلزم، حسناً، فلتكن المصالحة مصلحة قبل أن تكون شيئاً آخر، والانقسام مهلكة ولا يمكن أن يكون شيئاً آخر. هناك وضع فلسطيني مختلف عن كل المسيرة السابقة، بين الثورة والسلطة، ولابد من الاعتراف به، لكن من شأن الطرفين الرئيسيين، "فتح" و"حماس"، أن يبرهنا على أنهما ذاهبان إلى وضعية قبول متبادل، لئلا نقول وضعية ديمقراطية، لا إلى وضعية تربص واقتتال، فكلاهما غير معذور في إيصال الشعب والقضية إلى هذا الدرك الموجع. كان الانقسام -ولا يزال- دعوة إلى الجميع، أشقاء وأصدقاء، كي ينفضوا أيديهم من خلاف لا يستطيعون شيئاً حياله، فإما أن يساهموا فيه بصب الزيت على النار، وإما أن ينصرفوا عنه، وللأسف فإن نزعة الانصراف هذه باتت أكثر بروزاً. لذا كان التحذير الذي أطلعه الأمين العام للجامعة العربية، فللمرة الأولى هناك نوع من التوافق العربي على إشهار الجهة المعرقلة للحوار والاتفاق تمهيداً للتشهير بها واتخاذ مواقف منها. ولما كان الموقف العربي يتعامل أساساً مع السلطة، والسلطة بالمفهوم العربي يمكن أن تخطئ ونادراً ما تُلام، فقد بدا مفهوماً أن ذاك التحذير موجه إلى "حماس" التي أرادت وتريد أن تكون "سلطة"، واستطاعت أن تصمد على رغم الحصار، لكنها اضطرت في النهاية إلى القبول بـ"التهدئة"، والتهدئة هي عموماً أهم ركائز السلطة المعترف بها عربياً ودولياً. كل التصريحات بشّرت بحوار ومصالحة قريبين، الطرفان يؤكدان في الصحف وفي الفضائيات، ولدى السؤال رأساً لرأس تأتي الإجابة أقل استبشاراً وأكثر غمغمة. الضغط العربي فعل فعله على ما يبدو، ولهذا سبب جلي واضح هو أن نوعاً من التوافق العربي قد رتّب نفسه بنفسه على رغم الخلافات المعروفة بين العواصم المعروفة. ويعزى هذا التوافق إلى قراءة في الوضعين الدولي والإقليمي تظهر أن المرحلة المقبلة صعبة ولا جدال فيها من الشد والجذب فلسطينياً، هذا لا يعني عودة إلى تضامن عربي ما، مفاجئ هو الآخر، وإنما يعني أن التهدئة مطلوبة هنا أيضاً، لكن هناك أيضاً رفع "الفيتو" الأميركي- الإسرائيلي، فمع أن واشنطن لا تزال مصرة حتى الآن على أن اتفاقاً سينجز بين الفلسطينيين والإسرائيليين قبل نهاية عهد بوش، إلا أن الوقائع تكذب كوندوليزا رايس، وإسرائيل منشغلة بحكومتها مقدار ما أن واشنطن منشغلة بعمليات الإنقاذ والإغاثة في الأسواق المالية. المهم الآن، كيف سيتفوق "الفتحاويون" و"الحمساويون" على أنفسهم ليتجاوزوا الخلافات ويدخلوا في مساومات حكومة الوحدة الوطنية وتقاسمات الصفقة الانتخابية، واستحقاقات الأمن المهني غير الفئوي ومعالجات المخازي التي ارتكبت في إطار الانقسام. المهمة صعبة، لكنها غير مستحيلة، صحيح أن "حماس"، كسبت خبرة وتجربة جديدتين خلال السنتين الماضيتين، لكنها ستخطئ كثيراً إذا أقبلت على الحوار بعقلية "المنتصر" يوم 2007/6/20 في غزة، فالمحك الحقيقي هو أن يكون ذلك الانتصار لمصلحة الشعب الفلسطيني وقضيته، وهذا لم يبرهن بعد. وصحيح أن "فتح" صاحبة الخبرة والتجربة المتراكمتين منذ عقود تبدو الآن غارقة في أمراضها الداخلية، إلا أنها مدعوة لتأكيد قدرتها على البقاء كحاضنة رئيسية لكل تيارات الشعب الفلسطيني، وهذا ما يشوبه اليوم كثير من الضباب والتشكيك. والأهم من المحاصصات الوظيفية في سبيل المصالحة ألاَّ تنعقد المعانقات والتهاني على خلفية افتراق وتباعد حول "المشروع الوطني" والخيارات الأساسية. فأي تكاذب سرعان ما سينكشف وعواقبه سيئة.