يبدو وفق حسابات العقل والمنطق أن باراك أوباما المرشح "الديمقراطي" في انتخابات الرئاسة الأميركية قد اقترب كثيراً من دخول البيت الأبيض، فحزمة السياسات المقترحة من قبله تبدو أكثر ملاءمة لمواجهة إشكاليات الواقع الأميركي الراهن، وأداؤه حتى الآن يتميز برصانة أكبر، والفجوة تتسع -وفقاً لاستطلاعات الرأي العام- يوماً بعد يوم بينه وبين منافسه "الجمهوري"، والتطورات العاصفة الأخيرة في الساحة المالية الأميركية خاصة والعالمية عامة تصب في مصلحته، فهي تضيف إخفاقاً اقتصادياً مزرياً إلى إخفاق سياسي لا يقل عنه بؤساً في سجل الرئيس الأميركي الحالي الذي يبدو متخبطاً زائغ العينين بعد أن طالت آثام سياساته على نحو مباشر الحياة اليومية للمواطن الأميركي العادي. لم يكن الأمر هكذا منذ البداية بالنسبة لأوباما. صحيح أن البعض كانت له نبوءاته المبكرة حول صعوده السياسي، وأذكر أنني قرأت مقالاً في إحدى الصحف المصرية واسعة الانتشار منذ أكثر من عام قبل بداية السباق الرئاسي الأميركي يلفت فيه صاحبه إلى ظاهرة أوباما، وإلى أنه سيكون القادم الجديد إلى المكتب البيضاوي بعد الرئيس الحالي. غير أن أوباما كان يعاني دون شك من صعوبات بنيوية إذا جاز التعبير على رأسها أصوله الملونة، والمكون الإسلامي في اسمه، وارتباطاته الشخصية بعدد من "المتطرفين" دينياً وسياسياً إذا جاز التعبير، وكلها عوامل تجعل من النقلة النوعية التي سيمثلها وصوله إلى البيت الأبيض مسألة صعبة المخاض عسيرة المنال في مجتمع كانت العنصرية يوماً ما ركناً من أركانه، ويبدو أن "فوبيا" الإسلام شائعة فيه في الوقت الراهن. بل إن الظروف بدا أنها -قبل الإعصار المالي الحالي- قد بدأت تعمل أكثر لصالح خصمه "الجمهوري" الذي يشترك مع الرئيس الحالي في كثير من سياساته، فقد حدث تقدم ما في الوضع الأمني في العراق، وتراجع عدد القتلى الأميركيين الذين يسقطون نتيجة لأعمال المقاومة العراقية، وهو الأمر الذي يسر لجورج بوش وأنصاره وكذلك للمرشح "الجمهوري" في انتخابات الرئاسة أن يقولوا إنه حينما تتبع السياسات الصحيحة -وهي هنا زيادة القوات- فإن النتائج الإيجابية تبدأ في الظهور، وكان معنى هذا أن النصر في العراق ليس مستحيلاً، بل هو ممكن إذا رشدت السياسات الحالية على نحو كافٍ. ثم جاءت كارثة الإعصار المالي لتجعل من أوباما وسياساته شيئاً أشبه بسفينة نوح، فلن تكون سياسات جورج بوش التي لا يعارضها المرشح "الجمهوري" من حيث المبدأ سوى السبيل المضمون للغرق في الطوفان، أما طريق النجاة فيتمثل في الاعتصام بسياسات التغيير التي ينادي بها أوباما بعد أن ثبت أن سياسات اليمين المحافظ قد فشلت في كل شيء، أو بلغة أكثر علمية في أمهات المسائل في الساحة الأميركية: الأمن الخارجي والرفاه الاقتصادي. ولا يعني هذا أن أوباما لم يكن قادراً وحده على مواجهة خصمه "الجمهوري" وحملته، ولكن القصد أن الانهيار المالي الذي وقع مؤخراً قد سهل عليه كثيراً أن يثبت مدى ملاءمة سياسات التغيير التي يقترحها للخروج بوطنه من المآزق التي زجه فيها اليمين المحافظ الحاكم طيلة السنوات الثماني التي بقي فيها جورج بوش الابن في البيت الأبيض. غير أن ما سبق لا يعني أن أوباما قد ضمن دخول البيت الأبيض. صحيح أن عدم فوزه في الانتخابات القادمة سيمثل مفاجأة هائلة، لكن السياسة لا تعرف السكون، وعادة ما تبقي حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية أسوأ ما فيها إلى مراحلها النهائية، وإن كان مما يقلل من خطورة الأيام القادمة على أوباما أن أسوأ ما في جعبة معارضيه قد خرج إلى العلن، وأن البحث عن فضيحة مروِّعة له على الصعيد الشخصي يبدو صعباً، لكن السياسة رغم ذلك لا تعرف السكون، فمجرد اطمئنان أنصار أوباما إلى فوزه وفزع أنصار ماكين من احتمالات أن يلقى هزيمة فادحة أمام خصمه يمكن أن يكون في حد ذاته عاملاً في غير صالح أوباما فيما يعرف في التحليل السياسي باسم "النبوءة الهادمة لذاتها"، وقد حدثت غير مرة في السياسة الواقعية حين أجمعت استطلاعات الرأي العام على فوز حزب "العمال" البريطاني في الانتخابات التشريعية لعام 1970 بفارق ضخم عن حزب "المحافظين" غير أنه هزم، وأظهرت استطلاعات الرأي -قبل الاستفتاء على انفصال كيبيك عن الاتحاد الكندي أو بقائها ضمنه- أن الغالبية تؤيد الانفصال، لكن النتيجة كانت على العكس. وتفسير ذلك أن إعلان "النبوءة السياسية" يكون في حد ذاته عاملاً مؤثراً على السلوك السياسي للأطراف المعنية، وفي مثال هزيمة حزب "العمال" البريطاني أحدثت استطلاعات الرأي العام التي رجحت فوزه بفارق كبير تقاعساً هائلاً لدى أنصاره يوم الانتخابات، بينما استنفرت تلك الاستطلاعات أنصار حزب "المحافظين" للمشاركة في الانتخابات تفادياً لفضيحة، فكانت النتيجة فوز "المحافظين"، ليس لأن استطلاعات الرأي العام لم تكن صحيحة بالضرورة، ولكن لأنها أثرت لاحقاً على سلوك كافة الأطراف المعنية. وفي مثال "كيبيك" استنفرت الاستطلاعات الحكومة الفيدرالية الكندية لتبذل قصارى جهدها من أجل التأثير -بوسائل ديمقراطية بطبيعة الحال- على نتيجة الاستفتاء، وقد كان. لعل هذا هو السبب الذي جعل أوباما يحذر أنصاره منذ أيام من الثقة المفرطة في الفوز، فالسباق يبقى مفتوحاً إلى آخر شوط فيه. من منظور عربي، يفترض أن يكون فوز أوباما هو الأفضل، ليس لأي وهم أن العرب سيشهدون على يديه سياسات أفضل تجاههم، وقد أخفق الرئيس الأميركي الأسبق جون كيندي -على الرغم من إدراكه عمق مأساة الشعب الفلسطيني- في أن يغير السياسة الأميركية تجاه القضية الفلسطينية قيد أنملة حتى اغتياله، ولكن ثمة أسباباً محددة تدعو العرب إلى تفضيل وجود أوباما في البيت الأبيض، فليس صحيحاً ذلك المثل الذي يقول "الذي تعرفه أحسن من الذي لا تعرفه"، ذلك لأن العرب دفعوا ثمناً باهظاً في أماكن عديدة من أرجاء الوطن العربي على رأسها العراق وفلسطين نتيجة سياسات "الذي تعرفه" وحماقاته. كما أن الذي "لا تعرفه" يعارض على الأقل البقاء الأميركي في العراق، وخاصة أن ضغوط الأزمة المالية الحالية ستجعل معارضته هذه أمراً ذا جدوى من منظور مواجهة تلك الأزمة. إن أوباما يحمل مشروعاً للتغيير من أجل المواطن الأميركي العادي، وليس سياسة أنانية لخدمة فئة ضيقة في المجتمع الأميركي كما كانت حقبة بوش، ولاشك أن مشروع التغيير هذا يمكن أن يغير وجه الحياة الأميركية إلى الأفضل كما فعل بيل كلينتون منذ ثماني سنوات خلت، وإن كان أوباما يزيد عليه أنه يبدو تمثيلاً فعلياً لـ"الحلم الأميركي" الذي يستطيع أي مواطن فيه مهما كانت أصوله الاجتماعية أو العرقية، أو مهما كان لونه أن يكون رئيساً لبلاده إذا امتلك المقومات الموضوعية لذلك، وستكون الولايات المتحدة الأميركية هي الرابح الأكبر عالمياً إذا تجسد هذا المعنى في شخص أوباما كرئيس لها، وانعكس في شكل سياسات أكثر إنسانية تحل محل سياسات "الأميركي القبيح" التي ارتبطت بحكم الرئيس الأميركي الحالي.