من كان منا يعلم أن آيسلندا ليست سوى أرصدة مغامرة مغطاة بالمسطحات الجليدية؟ إن كنت راغباً في معرفة كيف أسهمت العولمة المالية في الزج بنا إلى هذه الفوضى المالية الاقتصادية، وكيف ستعيننا على الخروج منها وترتيبها في ذات الوقت، فما عليك أن تذهب بعيداً عن الصحف البريطانية وصفحاتها الأولى التي تحدثت عن قلق عدد من المواطنين وبلديات المدن والجامعات -بما فيها جامعة كامبريدج- على أرصدتهم التي أودعوها في حسابات الادخار الخاصة بهم في بعض بنوك آيسلندا، عبر الخدمة المصرفية الإلكترونية الخاصة بها. وما أن زرت أحد مواقع تلك الخدمة حتى وقعت عيني على عنوان جذاب بارز يقول: حسابات "آيسيف" الادخارية عبر الشبكة الإلكترونية هي خدمة مصرفية سهلة وشفافة، تحقق لك معدل فائدة ثابتة ومرتفعة. لكني قرأت أسفل تلك الصفحة اعتذاراً كتب بخط أزرق رفيع يقول: "نحن لا نستجيب في الوقت الحالي لأي طلبات إيداع أو سحب نقدي من حسابات "آيسيف" الإلكترونية، ونعتذر لأي مضايقة قد يسببها هذا لعملائنا". "مضايقة"؟! فحين يعجز العميل عن سحب بعض أمواله وإيداعاته الادخارية التي أودعها إلكترونياً في حسابه الخاص به في آيسلندا، تصبح المسألة أكثر من مجرد "مضايقة" بكثير، بسبب القلق الذي ينتابه على مصير تلك المدخرات. فما هي الحكاية إذن على وجه التحديد؟ في عام 2002 بدأت آيسلندا تحرير بنوكها من الملكية الحكومية. وحسب التقرير الذي نشرته صحيفة "وول ستريت" فقد نمت ثلاثة بنوك آيسلندية كبرى بسرعة مذهلة اعتماداً على ما حصلت عليه من تدفق الائتمانات السهلة. وفي حين لم تكن هذه البنوك الآيسلندية الثلاثة طرفاً في استثمارات القطاع العقاري الأميركي، فإنها خلقت فوضى الإقراض والاقتراض الخاصة بها. وفي ظل عالم مسطح، من الطبيعي أن تبحث الأموال عن تحقيق أعلى عائدات وأرباح ممكنة. وهذا ما حدث لمصارف آيسلندا التي تدفقت عليها الإيداعات من بريطانيا بنحو 1.8 مليار دولار. لكن ما أن أغلقت الأسواق الائتمانية العالمية وانخفض سعر "الكرونا"، حتى واجهت البنوك الآيسلندية عجزاً عن سداد ما عليها من ديون. وحين هرع المودعون لسحب أموالهم، لم يكن للبنوك الآيسلندية ما يكفي من الاحتياطات المالية لتغطية طلبات سحب المودعين. وبالنتيجة انهارت البنوك الثلاثة وتم تأميمها. وعندها تبين أن ما يزيد على 120 بلدية ومحلية حكومية، إلى جانب عدد من الجامعات والمستشفيات والمؤسسات الخيرية، قد أودعت ودائع ثابتة في حساباتها الخاصة بها في بنوك آيسلندا. وتبلغ قيمة ودائع جامعة كامبريدج وحدها نحو 20 مليون دولار، في حين تبلغ قيمة ودائع 15 إدارة من إدارات الشرطة في عدد من البلديات، حوالي 170 مليون دولار. وهكذا ضربت الأزمة المالية العالمية المسطحات الجليدية الآيسلندية هي الأخرى في نهاية الأمر، رغم أن بنوكها المحلية خلقت فوضاها المالية الخاصة بها. وبما أن بعض الإدارات المحلية لشرطة البلديات البريطانية كانت من بين المودعين والمستثمرين لفائضها المالي في البنوك الآيسلندية -مثل بلدية نورثمبيريا- فربما تعين على هذه الإدارات خفض دورياتها الشرطية خلال عطلة نهاية الأسبوع الحالي، بعد أن جمدت ودائعها المشار إليها آنفاً بسبب عجز البنوك الآيسلندية. بقي أن نقول إن لانهيار البنوك هذه علاقة لا تنفصم بالأزمة المالية العالمية، التي انطلقت شرارتها من انهيار القطاع العقاري الأميركي، وما لحق به من تداعيات في النظام المصرفي العالمي. ذلك أن مرد العجز هو دخول الأموال المودعة في البنوك الآيسلندية إلى شبكة العولمة المالية. وبسبب إعسار قروض الرهن العقاري، انهارت الائتمانات نتيجة لإحجام الجميع عن الإقراض وتوفير التمويل اللازم لمواصلة الاستثمار، جراء انتشار الخوف بين المؤسسات المالية والبنوك من أن تكون أصول كل واحدة منها مسمومة. وهكذا وصلت عدوى سموم النظام المالي الأميركي حتى المسطحات المالية الجليدية الآيسلندية. وهنا مكمن وجوهر حقيقة العولمة التي نشهدها اليوم. فجميعنا متشابكون ولا تقع المسؤولية على أحد منا دون الآخر. والعولمة تأخذ وتعطي. وبفضل ديمقراطية التمويل، تمكن الكثيرون في الهند والصين والبرازيل، من الخروج من هوة الفقر خلال العقود الأخيرة الماضية. غير أن العولمة تأخذ ما تعطي أحياناً. وها قد حانت لحظة الأخذ. فبفعل ديمقراطية التمويل نفسها، تمكنت الولايات المتحدة من نشر عدوى أزمة قطاعها العقاري في دول أخرى كثيرة تقع بعيداً عن حدودها. ونأمل اليوم أن تنقذنا العولمة مثلما آذتنا. ولن يتحقق الإنقاذ المالي الفعلي المستدام، إلا حين تتمكن الشركات القوية من شراء الشركات الضعيفة على أساس عالمي. وقد بدأت هذه العملية بالفعل. فقد رفض بنك "Credit Suisse” الأسبوع الماضي عرضاً بإنقاذه من جانب الحكومة السويسرية، وتمكن بدلاً منه من الحصول على رأسمال تمويلي من خواص أجانب. كما اشترى بنك "ميتسوبيشي" الياباني بعض أسهم "مورجان ستانلي" في خطة إنقاذية، إلى جانب الحيلولة دون حدوث تراجع أكبر في مؤشر "داو جونز". وأعتقد أننا سوف نشهد ظواهر مشابهة قريباً في المجال الصناعي. وما أن تنجلي سحابة هذه الأزمة، حتى نجد أنفسنا في عالم بات أكثر تشابكاً اقتصادياً مما كان عليه، وفيه لا تكون العلاقات الدبلوماسية التعددية، والتنظيم الدولي لحركة الأموال والنشاط الاقتصادي، مجرد مطلب إنما ضرورة وحقيقة. ذاك عالم تتحقق فيه الشراكة الفعلية بين أميركا وبقية دول العالم. توماس فريدمان كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"