بين حدثين مهمين شهدتهما كندا خلال أسبوع واحد، يتردد اسم رئيس وزرائها كثيراً هذه الأيام، بما يمنح فرصة لاستشراف إمكاناته لإدارة المرحلة الحالية من تاريخ البلاد، ولـ"التنقيب" في ماضيه وعن المحطات الأبرز ضمن سيرته السياسية. فالانتخابات العامة الكندية يوم الثلاثاء الماضي كانت اختباراً لشعبية رئيس الوزراء ستيفن هاربر، أما القمة الفرنكفونية المنعقدة يوم الجمعة في الكيبيك، فقد حملت كلاماً كثيراً حول الأزمة المالية وخطط أوتاوا لمواجهتها، وأكثر من ذلك، مثلت منصة إطلاق لبعض الآراء حول المسألة الكيبكية المؤرقة. وفي المناسبتين معاً كان لهاربر حضوره الظاهر؛ فقد أسفرت انتخابات الثلاثاء عن حصول حزبه، وهو "حزب المحافظين" الكندي الحاكم، على 134 مقعداً، ليرفع عدد مقاعده في البرلمان الجديد بـ16 عشر مقعداً، أي أقل بثمانية مقاعد من العدد الإضافي الذي كان يحتاجه لتأمين أغلبية برلمانية تؤهله لتشكيل حكومة جديدة. ورغم ذلك فسيشكل هاربر حكومة أقلية أخرى هي الثالثة من نوعها في كندا خلال السنوات الأربع الماضية، أي ذات الصيغة التي تسببت في تنظيم ثلاث انتخابات نيابية مبكرة خلال الفترة ذاتها، وهو ما دفع بهاربر، يوم السابع من سبتمبر المنصرم، لتقديم طلب رسمي إلى الحاكم العام "ميكاييل جان"، ممثلة ملكة بريطانيا في كندا، بحل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة، أملاً في الحصول على أغلبية برلمانية كافية. وخلال الحملة الانتخابية حافظ حزب "المحافظين" على تقدمه مقارنة بالحزب الليبرالي المعارض، حيث منحته استطلاعات الرأي نسبة تأييد وصلت 41?. وتعد النتيجة التي حصل عليها المحافظون في انتخابات الثلاثاء الفائت، هي الأعلى خلال 16 عاماً الأخيرة من تاريخهم، وهي نتيجة مكنت هاربر من الفوز بولاية ثانية ليشكل حكومة أقلية أخرى. ففي يناير 2006 قاد حزبه لخوض الانتخابات العامة، وفاز على رئيس الوزراء المنتهية ولايته "بول مارتين"، ليشكل حكومة أقلية ستضع حداً لحوالي 13 عاماً من حكم الليبراليين. وكان هاربر قد تولى قيادة الحزب في انتخابات داخلية أجريت في مارس 2004، أي بعد عام على تأسيس الحزب باندماج حزبي "المحافظ التقدمي"، بزعامة "بيير ماكاي"، و"التحالف الوطني للمواطنين" بقيادة هاربر نفسه. ولم تكن تلك بداية الحياة الحزبية والسياسية لهاربر، بل يعود انخراطه في العمل السياسي إلى مرحلة المدرسة الثانوية حين كان عضواً في "نادي الشباب الليبراليين"، قبل أن يغير ولاءه ليعارض السياسات المالية للحكومة الليبرالية وما أسمته في مطلع الثمانينيات "البرنامج الوطني للطاقة"، ثم لينضم فيما بعد إلى "الحزب المحافظ التقدمي" عام 1985. لكن سرعان ما خاب أمله في هذا الحزب، فشارك في تأسيس "حزب الإصلاح" بقيادة "بريستون مارنينغ" عام 1988، وفي العام نفسه خاض أول انتخابات نيابية، كمرشح عن الحزب في دائرة كالجاري الغربية، لكنه هزم كباقي مرشحي الحزب في سائر أنحاء البلاد. غير أنه أعاد الكرّة عام 1993، وسط صعود لشعبية الحزب في أقاليم الغرب، حيث فاز بعضوية البرلمان عن كاليجاري الغربية. وفي أواخر ولايته البرلمانية الأولي، تزايدت خلافاته مع رئيس الحزب "ستوكويل داي"، ليقدم استقالته نهائياً، وليبدأ مع عدد من ساسة وسط اليمين تأسيس حزب جديد باسم "التحالف الوطني للمواطنين"، والذي سيتولى هاربر رئاسته عام 2002. وبالاندماج لاحقاً مع الحزب "المحافظ التقدمي"، نشأ حزب "المحافظين الكنديين" الذي سيعيد اليمين، بقيادة هاربر، إلى الحكم عام 2006، وليصبح هاربر نفسه رئيس الوزراء الثاني والعشرين لكندا، وأول رئيس حكومة كندي ولد في النصف الثاني من القرن العشرين. ستفين جوزيف هاربر، أول ثلاثة أبناء لأبويه، وقد ولد عام 1959 في تورينتو، وأنهى دراسته الثانوية فيها عام 1978 ليلتحق بجامعتها، لكنه تركها بعد شهرين متوجهاً إلى ولاية إيمبرتا حيث حصل على وظيفة في إحدى شركات النفط هناك، ثم تركها ليلتحق بشركة أخرى للنظم الحاسوبية. وفي تلك السنوات حصل على شهادة الليسانس في جامعة كالجاري، ثم على درجة الماجستير من الجامعة ذاتها، ليتم تعيينه محاضراً فيها ومستشاراً لرئيسها. خلال عمله الحزبي والبرلماني ظهر هاربر كقيادي بارز، نال التقدير والاحترام حتى من خصومه السياسيين، وذلك لذكائه وجرأته والتزامه العقائدي. وهو يعد محافظاً اجتماعياً، وقد وقف بشدة ضد مشروع قانون عرضته الحكومة مرات عدة منذ عام 1994، للسماح بزواج المثليين، وخاض في هذا الشأن مواجهة مع اللجنة الكندية لحقوق الإنسان. لكن خلال عام ونصف العام من حكمه، أخفق هاربر في فرض كثير من الإصلاحات التي كان يطمح لإدخالها، إذ أن افتقاره لأغلبية برلمانية مؤيدة شل عمل حكومته في كثير من القضايا، ولم يتمكن من إكمال ولايته الأولى. وهاهو يبدأ ولايته الثانية في ظل أزمة تجتاح أسواق مال الدول الصناعية الكبرى، وكندا واحدة منها، حيث بدأ قطاعها التصنيعي يعاني بشكل حاد وغير مسبوق، لاسيما في ولايتي تورينتو وكيبيك. ومع ذلك فإن استطلاعات الرأي خلال الحملة الانتخابية، أفادت بأن الكنديين يولون ثقة أكبر لهاربر في إدارة الاقتصاد. شبح الأزمة الاقتصادية ربما دفع بهاربر إلى تعليق شيء من الأمل على قمة المنظمة الدولية للفرنكفونية، وهي منظمة تضم 55 دولة وتقودها فرنسا، أما عضوية كندا في هذه المنظمة، فمبررها وجود إقليم كيبيك الكندي الناطق بالفرنسية. لكن القمة مناسبة أخرى للحديث حول موقف هاربر من الكيبيك، خاصة أنه كان أحد أبرز المعارضين لاستفتاء عام 1995 الذي هزم فيه خيار منح السيادة للكيبيك بهامش ضئيل للغاية. وقد اتهم هاربر من قبل خصومه بمعادات الكيبيكيين، وواجه مشاكل بسبب ما نسب إليه ذات مرة من قول بأن المناطق الأطلسية (وضمنها الكيبيك) ذات ثقافة انهزامية. لكن هاربر يعتبر نفسه من أشد المدافعين عن القضايا الدستورية والنظام الفيدرالي وعن وحدة كندا. ويتهم كثيرون هاربر بالتقلب وبتغيير مواقفه سريعاً؛ ويستدلون بدفاعه عن غزو العراق حين كان معارضاً عام 2003، وبقراره سحب قوات بلاده من أفغانستان، بعد أن كان مدافعاً عن السياسات اليمينية لإدارة بوش الابن. غير أن نقطة الضعف الأخطر في سجل هاربر، ربما كانت موقفه من الملف البيئي، ومعارضته لقانون ضريبة الكربون للحد من الانبعاثات الغازية، ودفاعه عن الأنشطة النفطية في إيمبرتا التي تعد خزان النفط بالنسبة لكندا... وهو ملف يتعرض للتسخيف والنقد الشديد من قبل المنظمات المدافعة عن البيئة. إلى ذلك كثيراً ما وصفه البعض بأنه يميني مؤدلج وصاحب أجندة سرية متطرفة، لكنه يقول عن نفسه إن صراحته جلبت عليه من المشاكل ما لا يحصى ولا يعد! محمد ولد المنى