انشغلت الساحة الفكرية التونسية مؤخراً بصدور كتاب للمؤرخ اللامع المعروف محمد الطالبي بعنوان"ليطمئن قلبي"، شن فيه معركة شرسة ضد مدرسة الدراسات الإسلامية، التي تمحورت حول الأستاذ الجامعي المشهور عبدالمجيد الشرفي. والطالبي، بالنسبة للذين لا يعرفونه من بناة الجامعة التونسية، عرف في الوسط الأكاديمي برصانته وجديته، ودراساته المتخصصة في التاريخ الوسيط، العصر الأغلبي على الأخص، كما اشتهر ببحوثه ومشاركاته الرائدة في الحوار الإسلامي- المسيحي بصفته من أكثر العرب والمسلمين اليوم اطلاعاً على التقليد اليهودي- المسيحي، الذي يعرف تفصيلاته الدقيقة. لم يُعرف الطالبي في الحقل الفكري-السياسي إلا مؤخراً بعد أن تجاوز عمره الثمانين، إثر صدور مجموعة من الكتب والحوارات معه، باللغتين العربية والفرنسية، أخذ فيها مواقف جريئة من إشكالات الدين والمجتمع والتحديات الراهنة، التي تواجه المسلم في شؤون العقيدة والحياة. نجد هذه الأفكار مبثوثة في كتابيه "عيال الله" و"أمة الوسط"، وقد جلبت عليه نقمة التيار الأصولي المتشدد والاتجاه المحافظ المتعصب. والفكرة الأساسية التي يدافع عنها "الطالبي"، هي القراءة المقاصدية للنص الديني التي يدعوها بالتحليل الاتجاهي، ويفسرها بالقول"هي قراءة في نفس الوقت تاريخية-إناسية- غائية، فهي إذن قراءة حركية للنص، لا تقف بي عند حرفه، وما يقاس عليه وإنما تسير بي في اتجاهه". فمن خلال هذه القراءة وحدها، يرى إمكانية التصالح مع الحداثة، غير متردد في تجاوز بعض حرفيات الأحكام النصية (كالحدود الجنائية وبعض أحكام المرأة والأسرة )من منطلق أولوية المقصد ومراعاة السهم الموجه. إلا أن الأكاديمي العجوز يخرج إلينا هذه الأيام بكتاب سجالي حاد ضد ظاهرة "الانسلاخسلامية" التي يعني بها مدرسة متكاملة تسعى لتأسيس الحداثة على الانسلاخ من الإسلام، دون حسم الموقف العقدي منه، فتتخذ أحياناً شكل النزعة التجديدية الإصلاحية للوصول للمؤمنين والتأثير فيهم ، وتأخذ أحياناً أخرى شكل النزعة الهدمية العدائية للدين. ويقصد هنا الطالبي بصفة خاصة تلميذه عبد المجيد الشرقي، الذي بدا باحثاً مجداً في تركة الحوار المسيحي - الإسلامي الوسيط، قبل أن يتحول إلى صاحب مشروع نظري وإيديولوجي متكامل لخصه في كتابه "الإسلام بين الرسالة والتاريخ"، واستطاع أن يشكل له مختبراً بحثياً واسعاً من خلال الأطروحات الجامعية الكثيرة، التي أشرف عليها في الجامعة التونسية. ويتلخص المشروع الفكري للشرفي، كما يقدمه الطالبي، في مقاربة "نزع القداسة" عن النص الديني لإخضاعه لمناهج العلوم الإنسانية النقدية، ولتشكيل وعي إسلامي جديد متصالح مع الحداثة، لا يبقي من الدين سوى حرية العقيدة الفردية ومقاصد أخلاقية عامة. ولئن كان الطالبي يناقش محاوره بلغة علمية رصينة، إلا أن السمة السجالية تذهب به أحياناً حد اتهامه بالمداهنة والتقنع. فجر الطالبي بكتابه معركة فكرية واسعة، رد فيها الشرفي بمقالة حادة، وشارك في الحوار كبار كتاب تونس من منطلقات مختلفة متباينة. ومع أن معركة (الطالبي- الشرفي) تبدو حالة تونسية خالصة، ولم تتعد أصداؤها إلا قليلاً الساحة الفكرية التونسية، إلا أنها تتجاوز في الواقع هذه الساحة، ونلمس نفس الإشكالات التي تطرحها في السجال الفكري العربي، بإيقاعات مغايرة. وكلنا يتذكر المعركة الفكرية الحادة التي فجرها الحكم القضائي بتكفير نصر حامد أبو زيد أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة القاهرة، وقد شغلت الشارع المصري والعربي في منتصف التسعينيات. والمعروف أن الجدل الذي ولده كتابه"نقد الخطاب الديني"، لم يتوقف إلى اليوم . ولا تختلف في العمق أفكار أبي زيد عن أطروحة الشرفي، وإنْ اختلفت المقاييس المنهجية. فالرجلان يلتقيان في المرجعية الأركونية (نسبة لمحمد أركون)، التي تقوم على النقد التاريخي -التأويلي للنصوص الدينية، وإن كانت التعبئة الأيديولوجية أكثر كثافة لدى أبوزيد الذي لا تتجاوز معرفته لنظريات تحليل الخطاب المعاصرة بعض أوليات المنهج البنيوي في نسخته النقدية الأدبية. وقد التقى الرجلان من بعد مع أستاذهما أركون في إطار مؤسسة لتحديث الفكر العربي، تقدمت في شكل مشروع ثقافي طموح، وانتهت إلى نشر بعض الأطروحات الجامعية التي أعدها في الغالب طلبة الشرفي. تجدر الإشارة هنا إلى أن معركة نقد الخطاب الديني استقطبت وجوها كثيرة من الكتاب والباحثين من بينهم العديد من المرتبطين بحقول الدراسات الإسلامية في الغرب، خصص لهم رشيد بن زين بعنوان "مفكرو الإسلام الجدد" وعبدو فيلالي الأنصاري كتابا آخر بعنوان "إصلاح الإسلام؟" في الوقت الذي لخص "مالك شبل" أسس فكرهم في كتابه"إسلام الأنوار"(صدرت الكتب الثلاثة بالفرنسية). فما يميز هذه الكتابات عن الخطاب التحديثي النقدي الذي فجر معارك حادة في مطلع ومنتصف القرن العشرين، هو أنها لا تأخذ شكل تبشير إيديولوجي مباشر بالعلمنة وفصل الدين عن الدولة (معركة علي عبد الرازق وخالد محمد خالد)، كما لا تأخذ شكل نقد وضعي إيديولوجي للدين من منطلقات راديكالية جذرية (معركة كتاب صادق العظم نقد الفكر الديني)، بل تتخذ السمة الأكاديمية والمنهج التأويلي مدخلاً لمشروع إيديولوجي يتخذ سمة الإصلاح والتنوير، بدل شعارتية التحديث المستهلكة. ومن المفارقات المثيرة أن لحظة "الإصلاح " في الخطاب العربي، جاءت متأخرة على لحظة التحديث، على عكس المشروع الثقافي الأوروبي، الذي عرف تباعاً الإصلاح الديني ثم التنوير قبل أن يلج ديناميكية الحداثة. بيد أن الأمر في الواقع يتعلق باصلاحية مموهة، تستند لأدبيات ما بعد الحداثة والتنوير من أجل الدفاع عن قيم تنوير وتحديث يبحث لها عن أرضية استنبات من خلال استراتيجيات تأويلية يلتبس فيها العلمي بالإيديولوجي. ولذا فإن هذه المعارك، وإنْ وصلت أصداؤها الصحافة والرأي العام، إلا أنها لم تؤثر بعمق في أرضية الحوار العمومي على عكس المعارك الفكرية السابقة التي أشرنا إليها. تسنى لي أن أحضر بالصدفة في أحد فنادق بيروت الملتقى الأول لمؤسسة تحديث الفكر العربي، وقد ذكر لي أحد نجوم المبادرة أن المؤسسة الوليدة سيكون تأثيرها في الساحة العربية بقدر تأثير موسوعة ديدرو في فكر التنوير الأوروبي. وأذكر إنني قلت له بمزاح :"بل أتوقع لها أن تكون بتأثير أخوان الصفاء في العصر الإسلامي الوسيط ، ناد باطني نخبوي وأن توهم أصحابه تحريك الكون وتثوير المجتمع ".