إن التطرف لا دين له ولا طائفة ولا مذهب ولا عرق، فعلى ضفتي العالم الشرقي والغربي، أو بالتحديد الإسلامي والغربي ثمة متطرفون على المستوى العملي وعلى المستوى الفكري أو الفلسفي أو التنظيري، هذه حقيقة يردّدها الكثيرون من الدارسين المستقلين، أو من المدافعين الديماغوجيين عن السائد والمألوف والموروث في ثقافتنا. غير أن الفارق يكمن في أن هؤلاء الديماغوجيين يستخدمون هذه الفكرة على طريقة الحق الذي يُراد به الباطل، وذلك لأنّ مثل هذه الحقيقة حين تؤخذ على إطلاقها، فإنها تتغافل عن أمرٍ غايةٍ في الأهمية، وهو أنّ متطرفينا أو الخطاب الأصولي لدينا هو الخطاب السائد، هو الخطاب الذي يشكّل الوعي ويستقرّ في اللاوعي، والاستثناء لدينا هو الانعتاق منه نظرياً وعملياً، وذلك بعكس الغرب، فالغرب استطاع بعد صراعاتٍ مريرةٍ على مستوى الفكر والفلسفة والواقع أن يصل إلى ماهو عليه اليوم من سيطرة الخطاب الفلسفي العلمي على مساحات الوعي واللاوعي، والاستثناء هناك هو الخطاب الأصولي المتزمّت. إنّ هذا الفارق مراعاته واجبة على من أراد أن يدرس هذه اللحظة التاريخية من عمر العالم، ويقارن بين حضارتين متباينتين تتقاسمان العالم، وتثيران فيه الزوابع والعواصف العملية والفكرية. قبل يومين اثنين، انعقدت ندوة ضمن فعاليات مهرجان الشرق الأوسط السينمائي الدولي في العاصمة الإماراتية أبوظبي، التي تتطلع وبقوةٍ لحرق المراحل التنموية، لتصل بسرعةٍ إلى مستوياتٍ عالية التصنيف عالمياً، ولتكون علامةً مميزةً في قصص النجاح الكبرى في المنطقة والعالم، والتي يعدّ هذا المهرجان الدولي عوداً واحداً في حزمتها الملأى بالطموح والعزم. كانت الندوة مخصصة للنقاش حول "صورة المسلمين في السينما والتلفزيون"، والمتحدثون في الندوة ذوو مشارب شتى، ما أثرى النقاش وزاد من سخونة الحوار، أولاً لأهمية الموضوع، وثانياً لوجود شخصياتٍ مختلفة الاختصاصات والرؤى، وبما أنّني كنت أحد المتحدثين في هذه الندوة، فإنّني أحب أن أعرض بعض الأفكار التي ينبغي أن نستوعبها في مثل هذه الحوارات. لم تزل الأصوات المطالبة للغرب بتحسين صورة العرب والمسلمين في أعمالهم الدرامية، والداعية له أن يفرّق بين الإرهابيين وبين المسلمين والعرب، لم تزل هذه الأصوات عاليةً في العالم العربي ومطلبها صحيح من حيث المبدأ، ولكننا لا نصنع ما نطالب به بالمقابل، بل على العكس، فنحن أو الكثير منّا على الأقل يمنح الغرب أحكاماً متشددةً مليئةً بالحقد والكراهية ونظريات المؤامرة التي أصبحت توزّع بلا حساب، وباختصار فنحن نمنح الغرب أحكاماً بالجملة في ذات الوقت الذي نطلب منه أن يمنحنا أحكاماً بالمفرّق! نحن نطالب بل ونستجدي أحياناً أن ينظر الغرب إلينا بعدالةٍ وإنصافٍ وموضوعية، مع كل الأخطاء التي ارتكبناها أو ارتُكبت باسمنا، ولكنّنا نلعنهم أناء الليل وأطراف النهار، وهذا رمضان الكريم قد ولّى قريباً، وكانت كثير من المنابر والمحاريب فيه تستمطر اللعنات على الغرب، وليس الغرب كعدوٍ معتدٍ فحسب، بل على الغرب كلّه بقضه وقضيضه، وعلى حضارته التي ننعم بخيرها، بل وصل الحدّ إلى الدعاء على أطفاله ونسائه وضعفته بالفناء والبلوى والمصائب والأمراض والنكبات، ما يثبت مدى بعدنا عن الحكمة التي تقول: يا أيها الرجل المعلم غيره، هلا لنفسك كان ذا التعليم. كما أننا لسنا شرقاً واحداً، ولا مسلمين موحّدين ولا عرب مجتمعين، فكذلك الغرب، ففي الجانبين أصنافٌ شتى من البشر والتوجّهات والرؤى والتيارات، لا يمكن أن يجمعهم في حزمةٍ واحدةٍ إلا ديماغوجي أعشى، لا يكاد يميّز ألوان الطيف، فهو لا يرى منها سوى الأبيض والأسود فقط، على أنّ الرؤية الصائبة هي الرؤية التي تؤكد على الفوارق وترى التمايزات بين المتشابهات، ومن هنا فإن رؤية البشر لبعضهم تؤثر فيها الكثير من المؤثرات منها التاريخ والصورة النمطية المتوارثة، ومنها التطوّر الذهني للأمم والأفراد، ومنها طبيعة العلاقات بين الناظر والمنظور إليه مع عوامل أخرى منها الدينية والسياسية والاجتماعية وغيرها. إنّ الخطأ الأكبر لدينا ولديهم يكمن في التعميم، أي أننا نأخذ الجزء فنحكم به على الكلّ، ورؤية كل طرفٍ للطرف الآخر يصنعها الطرف المنظور إليه أولاً، فنظرتهم لنا –مثلاً- نحن صنعناها بدايةً، أو على الأقل الصوت الأعلى لدينا هو الذي صنعها، الصوت الذي استطاع أن يصل إليهم بقوةٍ وتأثيرٍ وفعاليةٍ، ونحن للأسف الشديد لم نعرّفهم بنا كما ينبغي، حتى جاءهم بعض المتطرفين لدينا وصعقوهم بصدمة الحادي عشر من سبتمبر وغيرها. كما تقدّم في أوّل المقال، فإن التطرف لا دين له ولا وطن، وقد شهد العالم على امتداد التاريخ واتساع الجغرافيا أصنافاً من التطرّف والإرهاب لا تُحصى ولا تُعدّ، غير أنّ ما يجب أن نقرّ به ونستوعبه حق الاستيعاب، هو أنّنا في هذه اللحظة التاريخية من عمر العالم نحن الذين يرتفع علم الإرهاب فوق رؤوسنا، ويقود جحافله المميتة أبناؤنا، وتشرعن تصرفاته الدمويّة ثقافتنا وتراثنا، يجب أن نقرّ بهذه الحقيقة حتى نحسن التعامل معها بعيداً عن اختلاق الأعذار والاختباء خلف الأكاذيب، أو الاكتفاء بالاتكاء على نظريات المؤامرة وصراع الحضارات. أوّل ما يجب أن نقرّ به هو أنّ خطابنا الديني خطابٌ مأزومٌ ومتفجرٌ، وأنّ مجتمعاتنا أضحت أسيرةً للتطرف ومروّجيه عبر منظومةٍ محكمةٍ من المفاهيم الدينية التي تغذّيها أوضاعٌ سياسيةٌ واقتصاديةٌ مزرية منحت مثل هذه المفاهيم البيئة اللازمة للتكاثر والتأثير حتى أصبحت مسيطرةً على رؤية وأحكام مجتمعاتنا وأفرادنا تجاه الأشخاص والأفكار والأشياء والأمم والحضارات. التطرف هو بالضرورة موقف مضاد للحضارة رافض لها، منجذب إلى الماضي، مأسورٌ بالسائد المتلقّى سماعاً وحفظاً ونقلاً لا وعياً وفهماً وعقلاً، فالنموذج المثالي لدى المتطرفين في الأعم الأغلب كامنٌ في الماضي لا في المستقبل، وأيضاً ليس في الماضي كما كان، وكما حدث بل في الماضي المتخيّل المعدّل تاريخياً، ليكون على مقاسات المثال المتعالي، ويمكن رؤية هذا الأمر بارزاً في دراسات المتطرفين المتعصبين للتاريخ بإجمال أو لتاريخ أمةٍ من الأمم أو تيارٍ من التيارات، ويبرز هذا بشكل أكبر في تراجم الرموز وسيرهم وحياتهم. أحسب أننا قد وصلنا إلى مرحلة من تطوّر البشريّة يجب أن نقتنع فيها أنّنا لا نستطيع أن نبيد من نختلف معهم، ولا أن نقصيهم وننفيهم، وأنّ التعايش لا الاحتراب هو الحلّ الأمثل، وأن التعاون لا التخاصم هو المخرج الأسلم، فلنسلك إذاً مسلك السلام والتعايش والتعاون، ولننافس على التميّز العلميّ والتقنيّ الحديث، ولندع صراعات الماضي ترقد بسلامٍ بعيداً عنّا، بدلاً من استحضارها الدائم الذي لا يزيدنا إلا خبالاً وضياعاً ولا يعقبنا إلا ألماً وشتاتاً.