هذه المدينة ولقرون طويلة ماضية كانت تُوصف بأنها "بوابة الشرق". إلى جانبها، وربما منافسة لها، كانت هناك مدن أخرى عديدة في الضفة الشمالية للمتوسط، جنوة، مارسيليا، صقلية، "بالميرا"، "نابولي"، وغيرها، كلها تنافست لتكون مدخل أوروبا إلى الشرق. اليوم نرى ذات التنافس ونرى بوابات مختلفة، بعضها قديم يتجدد وبعضها جديد جداً. من أوروبا إلى آسيا إلى أفريقيا وأميركا اللاتينية هناك غرام متجدد بالشرق، وهذه المرة بالخليج على وجه التحديد. البندقية احتضنت لقاء أوروبياً خليجياً أعادت فيه بعضاً من روحها القديمة، وأرادت دفع القارة المتوسطية لتتنافس بشكل جدي مع قوى صاعدة كالصين والهند أصبحت على مرمى سفينة من رسم مسقبل جديد للعالم، وتوثيق علاقات ما كانت من قبل مع الخليج الصاعد أيضاً بثرواته ونفطه وتوسطه الآسيوي المميز. "المنتدى الأوروبي- الخليجي" لعام 2008 في البندقية (Eurogolfe Forum 2008) هو الجهد الاستكمالي لمنتديات سابقة بدأت منذ عام 2004 بمبادرة وجهد فرنسي أكاديمي على وجه التحديد، ثم تطور واستقطب شركاء خليجيين، وأصبح الآن محطة سنوية مهمة يلتقي فيها الطرفان لتأمل المستقبلات المشتركة. لقاء هذا العام كان بعنوان "أوروبا، الخليج، والمتوسط: إحياء الإرث المشترك، وترسيم فضائنا الجديد". وعلى رغم العنوان الأوروبي المجاور لنظيره الخليجي في هذا اللقاء إلا أن صبغته العامة فرنسية ومحركيه الأساسيين أكاديميان فرنسيان وفي مقدمتهم جيل كيبيل المختص في شؤون الشرق الأوسط، والباحث في شؤون إسلامية على وجه التحديد. ويتناغم عقد هذا اللقاء، وكذلك عنوانه الباحث عن منطقة مشتركة بين المتوسط والخليج، مع مشروع ساركوزي حول الاتحاد المتوسطي، الذي استهل به فترة الرئاسة الفرنسية الحالية للاتحاد الأوروبي. فالطرح الساركوزي الطموح واجه تحديات وشكوكاً عدة أحدها مسألة الضم والاستبعاد: من هي الدول والمناطق التي يضمها هذا الاتحاد... ومن هي الدول والمناطق التي يستبعدها؟ فإذا كان التعريف الجغرافي للمتوسط يساعد في تحديد سمات هوية الأعضاء المتوقعين، أي الدول المحاذية والمشاطئة للمتوسط، إلا أن هذا التحديد أبقى على تساؤلات صعبة. من ضمن هذه التساؤلات ما يتعلق بضم الشمال الأفريقي إلى الاتحاد وفصمه أوروبياً ومتوسطياً عن وسط وجنوب القارة السمراء، ولو نظرياً وتعاونياً. ومنها ما يتعلق بمصير العلاقة الأوروبية (أو المتوسطية) مع بقية الشرق الأوسط وخاصة الخليج العربي. بطبيعة الحال ثمة إدراك عند كثير من المهتمين بفكرة "الاتحاد المتوسطي" لأسباب ودوافع الفكرة المتوسطية، وأن هناك محفزات أمنية واقتصادية أوروبية تتصدر تلك الدوافع، خاصة لجهة ازدياد وتائر الهجرة غير الشرعية من الشمال الأفريقي إلى دول الجنوب الأوروبي، وكذا ارتفاع معدلات البطالة على جانبي المتوسط. وكلا هذين العاملين يصب استتباعاً في زيادة المناخات المولدة للتطرف والتوجهات الراديكالية. ومع ذلك فإن أي شكل تعاوني أو تجاري قد يتجه إليه هذا الاتحاد إن قُيض له أن ينطلق من شأنه أن يؤثر، بهذا الشكل أو ذاك، على الأطراف التي بقيت خارج الحدود الجغرافية الجديدة التي يتم ترسيمها. وهنا فإن الخليج ووسط القارة الأفريقية يصبحان من هذه الأطراف. وبعض الجدل الذي أثير في منتدى البندقية له علاقة بالبحث في هذا السؤال: أين تسير علاقة أوروبا مع الخليج في ضوء التطورات المستقبلية في المديين القصير والمتوسط. لكن ما يحدث على الجانب الأوروبي- المتوسطي ليس إلا النصف الأول من التساؤل المستقبلي، فالنصف الثاني يأتي مما يحدث على الجانب الخليجي. فهنا تتعاظم علاقات الدول الخليجية مع القارة الآسيوية ومع دولها الكبرى مثل الصين والهند وماليزيا وإندونيسيا وكوريا وسنغافورة. كما أن هناك توجهاً متزايداً نحو أفريقيا السمراء وأميركا اللاتينية. ومعنى ذلك أن المصالح التجارية والاقتصادية الخليجية، خاصة في العقد الماضي، وسعت من فضاءات نشاطها، ولم تعد محصورة بأوروبا والولايات المتحدة، وهو توسع حميد يوفر تنوعاً في ميادين وجغرافيا الاستثمار يضمن دوماً درجات أعلى من الأمن الاستثماري والطمأنينة. ما أرادت أن تفعله "البندقية" هو تغير شكل العلاقة المتوسطية من ثنائية بضلعين شمال وجنوب المتوسط إلى ثلاثية تتضمن الخليج في نفس الوقت. وقد ركزت النقاشات وبشكل مفصل على آليات وكيفيات تعميق البعد الأوروبي- الخليجي في الاقتصاد، والاستثمار، والسياسة، والإعلام، والفن، واللغة، وقبل ذلك وفي رأس قمة أولوياته كيف يتم التعامل مع الصراع العربي- الإسرائيلي الذي يعيق وأحياناً يغلق آفاقاً كثيرة للتطور. وقد أصدر المنتدى نداء بهذا الخصوص جدير بأن يتم تناوله في مقالة منفردة الأسبوع القادم. لكن السؤال المركزي والملح جداً والخاص بالجانب الخليجي يكمن في ما يلي: حتى متى يستمر اللاتوازن في الوضع الجيو- سياسي والجيو- اقتصادي المتعلق بالكتلة الخليجية العربية؟ فمن ناحية اقتصادية نرى عملاقاً اقتصادياً ليس على مستوى الإقليم الشرق أوسطي فحسب، بل وأيضاً على مستوى عالمي. لكن على مستوى سياسي واستراتيجي فإن ذلك العملاق يتحول إلى قزم حيث لا نرى ترجمة للقوة الاقتصادية والثرواتية والاستثمارية على شكل نفوذ سياسي وتأثير استراتيجي إقليمي أو دولي. والواقع أن أية مقاربة موضوعية وتحليلية لمكونات القوة والضعف الخليجي في الوضع الراهن تفضي إلى ذات النتيجة: قوة في الاقتصاد مقابل ضعف في السياسة. الخليج الآن هو واحد من المراكز العالمية في استقطاب الاستثمارات الأجنبية، وواحد من أهم المراكز العالمية في الاستحواذ على السيولة التي تفتقد إليها الولايات المتحدة وأوروبا، وهو واحد من أقل المراكز تأثراً بالأزمة المالية العالمية التي ضربت أهم أركان المعمار الرأسمالي العالمي. لكن مع ذلك فإن الكتلة الخليجية العربية تعاني من ضعف في امتلاك القدرة السياسية للتأثير في السياسة الإقليمية والدولية. فعلى سبيل المثال ليس هناك دور فعال في القضايا الكبرى في المنطقة من الوضع في العراق، إلى فلسطين، إلى الصومال، إلى السودان، إلى الصحراء الغربية، وربما غير ذلك كثير. وليس هناك ضغط على القوى الكبرى، أو مقايضة بارزة للعيان، بين ما يقوم به الخليج منذ سنوات طويلة في الحفاظ على استقرار السوق العالمي سواء في النفط وتدفق السيولة، والاستجابة للتطلعات الإقليمية لدول الخليج خاصة في توفير الاستقرار والأمن. بل إن دول الخليج تكاد تكون مُستثناة من أهم ثلاثة ملفات إقليمية هي العراق وفلسطين وإيران، على رغم أنها أكثر من يتأثر بمنعكسات هذه القضايا الثلاث. وعلى مستوى دولي ليس هناك من نفوذ أو دور خليجي كُتلوي موحد مرئي على مستوى توجيه السياسة والاقتصاد العالميين. لماذا لا تطالب دول مجلس التعاون الخليجي، أسوة ببعض الدول الناهضة اقتصاداً وسياسة، بمقعد في منتدى الدول الثماني الكبرى؟ نعرف جميعاً أن هذا المنتدى يكاد يصبح أهم من مجلس الأمن، كما أن بعده الاقتصادي يكاد يتغلب على أبعاده الأخرى، فلماذا لا تفعل سياسة خليجية موحدة بهذا الاتجاه؟ ولماذا لا يصبح هناك صوت خليجي بارز ومؤثر في كل قضية من قضايا المنطقة، وخاصة الملف الإيراني والعلاقة مع الولايات المتحدة. إن أية سياسة غربية تجاه إيران يجب أن تكون بالتنسيق المسبق مع دول مجلس التعاون الخليجي، لأنها الدول الأكثر تأثراً بأي توجه سياسي بهذا الاتجاه. كما هي الممرات المائية الجذابة والملتوية وأحياناً المربكة في البندقية بين الجزر التي تتألف منها الجزيرة، وتنقل المشاركين في المنتدى من جزيرة إلى أخرى، كان كذلك وضع الخليج وأوروبا: ممرات واعدة، وأخرى مربكة. لتصحيح ارتباك المسارات يحتاج الخليج إعادة تشكيل لمواطن قوته الاقتصادية وترجمتها إلى استراتيجيات سياسية إقليمية.