في الوقت الذي ينزلق فيه العالم يوماً بعد يوم إلى قاع الأزمة المالية العالمية، يتزايد الإيمان بفشل الرأسمالية في تحقيق الوعود اللانهائية بالثراء وبالرفاهية الشخصية، والتي طالما دغدغت بها مشاعر الملايين والبلايين من الناس. وهو ما دفع الكثير من المفكرين والاقتصاديين والسياسيين، إلى إعادة النظر والتفكير في النظم الاشتراكية مرة أخرى، وما يمكن أن تحققه مبادئها المبنية على أهمية العدالة الاجتماعية، وضرورة التوزيع المنصف لأعباء الإنتاج وعوائد الأرباح، من تحقيق نظم اقتصادية أكثر استقراراً. وهذا التحول الإيديولوجي الاقتصادي، يترافق مع تحول مماثل في تقييم نظم الرعاية الصحية، يظهر في شكل تراجع أهمية ما يمكن أن نطلق عليه الرأسمالية الصحية، وتزايد الاهتمام بأساليب الرعاية الصحية الأولية. وأفضل مثال على هذا التحول الإيديولوجي الصحي، هو الحقائق والتوصيات التي تضمَّنها التقرير الصحي العالمي لعام 2008 (The World Health Report)، والذي صدر منتصف الأسبوع الماضي عن منظمة الصحة العالمية، حيث تضمن التقرير نقداً لاذعاً لأسلوب تنظيم، وتمويل، وتوفير الرعاية الصحية، في الدول الفقيرة والغنية على حد سواء. ونجح التقرير في توثيق العديد من مظاهر الفشل والتقصير في النظم الصحية، التي أدت إلى اختلالات صحية خطيرة بين العديد من شعوب الدول المختلفة، وبين طوائف المجتمع في داخل الدولة الواحدة. وهذه الاختلالات تتضح على المستوى الدولي من حقيقة أن معدل الإنفاق الصحي على الشخص في بعض الدول، لا يتعدى 20 دولاراً في السنة، بينما يصل في دول أخرى إلى 6000 دولار سنوياً، وهو ربما ما يفسر أن الفرق في متوسط العمر بين شعوب أفقر الدول، وشعوب أغنى الدول، قد بلغ 40 عاماً. أي أن من يولد حالياً في دولة غنية، يتوقع له أن يعيش لفترة أربعة عقود أكثر ممن ولد في دولة فقيرة. والمفارقة الأدهى هنا، أن 5.6 بليون شخص من سكان الدول الفقيرة ومتوسطي الدخل، يدفعون من جيوبهم أكثر من نصف تكاليف الرعاية الصحية التي تقدم لهم. ولذا تتسبب تكاليف الرعاية الصحية، التي تتزايد باستمرار، في دفع أكثر من مليون شخص سنوياً تحت خط الفقر. وحتى في داخل الدولة نفسها، نجد مثلاً أن معدل وفيات من هم دون سن الخامسة، والقاطنين في الأحياء الفقيرة، يبلغ سبعة عشر ضعف معدل وفيات نفس الفئة العمرية من القاطنين في الأحياء الثرية من نفس المدينة. وهو ما يعني أن العنوان الذي يسجل عند كتابة شهادة ميلاد الطفل في تلك المدن، يعتبر أكثر العوامل تأثيرا في احتمالات بقائه على قيد الحياة حتى بلوغه سن الخامسة. وهذه الهوة الواسعة بين مستويات الرعاية الصحية للفقراء والأغنياء، لاشك أنها كانت نتاج الغلبة المؤقتة للرأسمالية الاقتصادية في حقبة ما بعد ما سمي "نهاية التاريخ". ولكن هل حجم الإنفاق المالي وحده، هو العامل الأهم في تحديد مستوى الرعاية الصحية، ومتوسط العمر، واحتمالات الوفاة؟ الحال أن إجابة هذا السؤال ليست بالسهلة أو المباشرة كما يتضح من الوهلة الأولى. فنظام الرعاية الصحية الأميركي مثلًا، يحقق دائماً مستوى أقل من المعدل العام لباقي النظم الصحية الحكومية حول العالم، على صعيد الكثير من القياسات التي تقـيم من خلالها جودة الرعاية الصحية، مثل معدل الوفيات بين المواليد الجدد، ومتوسط طول العمر، وفرص الشفاء من الأمراض السرطانية. هذا على رغم أن نظام الرعاية الصحية الأميركي، يعتبر الأكثر تكلفة والأفضل تمويلاً حول العالم على الإطلاق. ففي عام 2001 أنفق الأميركيون ما قيمته 4887 دولاراً للرعاية الصحية على كل مواطن، وهو أكثر من ضعف ما أنفقته أي من الدول الصناعية السبع الكبرى على مواطنيها. والغريب أن الولايات المتحدة أنفقت أكبر نسبة من الدخل القومي على الرعاية الصحية لشعبها، مقارنة بكندا وألمانيا وفرنسا واليابان، وعلى رغم ذلك عجز الأميركيون عن تحقيق ما حققته تلك الدول، في مجالات وفيات المواليد ومتوسط العمر وعلاج السرطان. وهذا التناقض تفسره توصيات التقرير الصادر عن منظمة الصحة العالمية، التي تتمحور حول المطالبة بإحياء دور الاشتراكية الصحية، أو بشكل أدق دور الرعاية الصحية الأولية (Primary Health Care)، بناء على أن قيم، ومبادئ، وأساليب هذا الجانب من الخدمات الصحية، قد أثبتت أهميتها وضرورتها بشكل جوهري، مقارنة بالأساليب العلاجية الحديثة باهظة التكاليف، والمقصورة على القادرين فقط في أغلب الأحوال. أو بمعنى آخر، أن درهم الوقاية خير من قنطار العلاج، وخصوصاً إذا كان لا يتوفر إلا القليل من الدراهم. وحتى في حالة توفر الدراهم، فقد أدرك أفراد المجتمع الطبي منذ وقت ليس بالبعيد، أنه في الكثير من الحالات لا يوفر الاخصائي أو الاستشاري حلولاً أسرع أو علاجاً أفضل، من الحلول والعلاج الذي يقدمه الممارس العام، أو طبيب العائلة، أو حتى الممرضة السريرية (Clinical Nurse). بل على العكس، فكثيراً ما يؤدي اللجوء مباشرة للأخصائي إلى تجزئة وتفتيت الرعاية الشاملة المقدمة للمريض، وهو ما يقلل من كفاءة وفعالية النظام الصحي بوجه عام، ويرفع من تكلفته، بشكل يجعله غير متاح للمرضى في الكثير من الحالات. وهو ما حدا بمنظمة الصحة العالمية إلى التحذير من الانتشار العالمي لـ"اللامساواة الصحية"، بسبب تفضيل القادرين على غير القادرين، واللجوء إلى أساليب وطرق علاجية باهظة التكلفة، مع تجاهل أساسيات الرعاية الصحية. وهي كلها عوامل تنذر بأزمة صحية عالمية، في وقت تعولمت فيه الأمراض، وتخلت فيه الجراثيم عن اعترافها بالحدود الجغرافية والسياسية.