لقد انتهى عصر الحكومة الصغيرة، وعادت الضوابط التنظيمية مجدداً، وأصبحت الحكومة هي المسيطرة الآن على عملية التمويل. من بين كل التطورات المذهلة، التي حدثت خلال الأسبوعين الأخيرين، فإن التوجه العولمي للحكومة ربما كان هو الأكثر أهمية على الإطلاق. في البداية، ظهرت الأزمة التي ترتبت على انهيار بنك "ليمان براذرز" وكأنها مقتصرة على الولايات المتحدة دون غيرها، ولكن ما حدث في الواقع هو أنها انتقلت إلى أوروبا خلال يومين فقط، وذلك عندما وقفت الحكومات على جانبي الأطلسي تحاول في ارتباك واضح تطوير خطط جديدة لدعم بنوكها، والحيلولة دون تجميد عملية الإقراض لديها. ومنذ عشر سنوات مثلاً، كان مثل هذا الإجراء يكفي في حد ذاته لعلاج أزمات مشابهة. ولكن الأمر لم يكن كذلك هذه المرة عندما تم إعلان الإجراء وتطبيقه منذ عشرة أيام، حيث كان الفشل من نصيبه -على الفور تقريباً-بسبب فشل الحكومة في ضخ كميات كافية من رأس المال في النظام المالي المتزعزع، وبسبب حصرها لعملية الإنقاذ في النطاق المحلي فقط دون أن تتخطاه إلى النطاق العالمي، في حين أن الاقتصاد الذي سعت إلى إنقاذه، كان قد أصبح عالمياً بدرجة لم يكن ممكناً معها لأية حلول محلية أن تفلح في علاج مشكلاته. وفي أوروبا، التي كان قد ظهر فيها اقتصاد قاري، لم تكن هناك سلطة قارية قادرة على وضع القواعد واقتراح الحلول الموحدة عندما وقعت الأزمة في أميركا وامتدت إليها. وهكذا رأينا دولاً أوروبية تضمن كافة الودائع في بنوكها، وأخرى تمتنع عن ذلك. وبالنسبة للبنوك التي كان نشاطها يمتد في عدد من الدول الأوروبية، فإن ما حدث عندما بدأت بعض هذه البنوك في التهاوي، هو أنه لم يكن معروفاً على وجه التحديد، أي الدول الأوروبية بالضبط هي التي ستضطلع بعملية الإنقاذ؟ وإلى أي حد؟ وتحت سلطة من؟ كان من الملاحظ قبل وقوع الأزمة بوقت طويل، وجود نوع من عدم التناغم بين الشركات العالمية الكبرى، وبين الحكومات المحلية، وهو ما كان يقوض النظام المالي العالمي. فإذا ما أخذنا على سبيل المثال الحالة الخاصة بانهار مؤسسة "آي آي جيه" وعملية التأميم الفعلي التي أجرتها الحكومة لها من أجل إنقاذها، فسنجد أن السبب الرئيسي في انهيار هذه المؤسسة -وهي مؤسسة تأمين مقرها أميركا- هو عمليات مبادلة الديون غير المسددة في مواعيد استحقاقها، والتي تم اقتراحها من قبل "وحدة المنتجات المالية" التابعة للشركة. وهناك سبب آخر لفشل تلك المؤسسة هو أنه على رغم أن مقرها كان في لندن إلا أن الإجراءات التنظيمية الخاصة بها، كانت تُعد من قبل مكتب مراقبة الإسراف الحكومي التابع للحكومة الأميركية على أساس أن المؤسسة كانت تمتلك مدخرات وقروضاً في الولايات المتحدة. وإذا ما كان هذا التحليل لأسباب ما حدث يبدو بيزنطياً وغير فعال، فلنعتبر أنه كذلك.. ولكن يجب أن نضع في اعتبارنا، أن ما حدث كان نتيجة حتمية للانفصال المتزايد بين السلطات المحلية وبين الاقتصاد العالمي. فالصين على سبيل المثال، هي التي تمد العالم في الوقت الراهن بالكثير من احتياجاته من المواد الغذائية والمنتجات الصناعية والطبيعية، على رغم أن سجلها المتعلق بإجراءات الأمان لا يوحي بالكثير من الثقة. وليس هذا هو المظهر الوحيد لعولمة الاقتصاد، وإنما هناك مظاهر أخرى عديدة نختار منها على سبيل المثال أن الولايات المتحدة تقوم بإجراء عمليات الصيانة والإصلاح لطائراتها في دول أميركا الوسطى حيث العمالة أرخص دون أن تكلف نفسها عناء إجراء عمليات التفتيش على تلك العمليات بشكل منتظم. وكل ذلك كان معروفاً من قبل، ولكن الأمر كان بحاجة إلى وقوع أزمة مالية بالحجم الذي وقعت به حتى تجد الحكومات نفسها مضطرة لمواجهة قصور إمكانيات الدولة الوطنية، ومحدودية دورها. وفي الأسبوع الماضي أدركت أمم أووربا أنها مضطرة جميعاً لتبني خطط موحدة لإعادة رأسملة البنوك، وأخرى للتأمين على الودائع وجميعها من اقتراح رئيس الوزراء البريطاني جوردون براون "والهدف منها استرداد الثقة في القطاع المالي. ومن خلال إقدام الدول الأوروبية -بريطانيا وفرنسا وألمانيا أساساً- على ذلك فإنها وضعت معايير أمان، وجدت الولايات المتحدة -على رغم ما أبدته إدارة بوش من تمنع في البداية- نفسها مضطرة إلى تبنيها أيضاً. والآن وبعد أن اكتسبت تلك الدول قدراً من الشجاعة والثقة بالنفس بسبب نجاح الإجراءات التي اقترحتها، وبسبب نجاح التنسيق الفعال بينها، فإن رئيس الوزراء البريطاني جوردون براون، والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي وغيرهما من القادة الأوروبيين يدعون في الوقت الراهن إلى عقد مؤتمر دولي لإيجاد بعض "خرائط الطريق العالمية" لتنظيم مسيرة الأسواق المالية التي يسودها عدم الاستقرار والارتباك. ويريد الأوروبيون البدء بهذه الخطط اعتباراً من الشهر القادم، على رغم أنهم إذا ما أرادوا إقناع الشعب الأميركي بفكرة الحوكمة الجماعية -التي تضمهم وتضم أوروبا أيضاً- فإنهم بحاجة إلى الانتظار إلى أن تستطيع الولايات المتحدة أن تكون ممثلة من خلال إدارة تتمتع بقدر من الدعم الشعبي والشرعية أكثر من اللذين تتمتع بهما إدارة بوش حالياً. والأمر الأكثر أهمية من الناحية الجوهرية أن محرري المواثيق والمعاهدات العالمية الجديدة ينبغي ألا يكتفوا بكتابة القواعد والبنود المتعلقة بتأسيس مؤسسات عابرة للقارات من أجل تنظيم البنى المالية للقرن الحادي والعشرين، بل إن عليهم أيضاً أن يدركوا أنهم بحاجة إلى جانب ذلك إلى وضع القواعد والتنظيمات اللازمة لضمان سلامة المنتجات التي ينتجها النظام الاقتصادي العالمي، وإلى ضمان استمرار مستويات المعيشة المرتفعة للعمال الذين ينتجونها. وخلاصة القول، إن الوقت قد حان لعولمة رؤية "العقد الجديد" التي كان الرئيس روزفلت قد أقرها في ثلاثينيات القرن الماضي. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هارولد مايرسون كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"