قيل الكثير في وسائل الإعلام والثقافة عن دور الدين في مجتمعات العالم العربي، وعُقدت ندوات لا تحصى في كل دولة تقريباً عن "الأصولية الدينية" و"الجماعات الإسلامية" ومخاطر "التطرف والتكفير". ورغم أنه لم يبق الكثير ليقال في هذا المجال، فإنه بقي الكثير لتنفيذ النصائح والتوصيات! فقد أشير في العديد من هذه الأدبيات واللقاءات، إلى ضرورة تطوير المجتمع والثقافة، وتحسين مستويات المعيشة، وتحديث التعليم، وإشراك المرأة في الإنتاج والحياة العامة، وحماية حرية التعبير والنشر...إلخ. ولكن هذه التوصيات والاقتراحات لم تفارق في أغلبها، مجال الكتابة والقول والمثال، لتصبح جزءاً من الواقع العربي المعاش، بل وفي حالات عديدة غالبة، اشتد التعصب هنا وهناك، وزاد انتشار الجماعات المتزمتة والقوى المناهضة للتحديث، وتراجع الوضع المعيشي والخدماتي، وتدهور التعليم الجامعي والعام، وغير ذلك. وبذلك تأصلت بيئة التوالد للمفاهيم التقليدية، واتسعت الفجوة بين واقع هذه المجتمعات والتقدم المأمول. ولا تزال ملاحظات الباحث الأردني، د. عاطف عضيبات، التي نشرها قبل نحو عشرين سنة صحيحة حول سبب تنامي الجماعات الدينية: "إن مجتمعنا العربي يشهد اليوم هروباً دينياً كبيراً كتعبير عن الأزمة الخانقة التي يمر فيها، لتقد تبين لغالبية أفراد المجتمع العربي حدود العقائد السياسية والاجتماعية في تحقيق أمانيهم، فراحوا يبحثون عن عقائد أخرى. وليس أفضل من الدين في هذه الأحوال، فهو يقدم حلاً ذاتياً على الأقل، يخلص النفس من ضياعها، والإنسان من تشرده الفكري، فهو عامل استقرار وأمن، يساعد على تحقيق الذات والقبول بالأمر الواقع". ويبدي د. عضيبات ملاحظة أخرى في غاية الأهمية، فيقول إن نتائج الدراسات الميدانية، قد "أظهرت إقبال الكثير من أفراد مجتمعنا العربي-الإسلامي على ممارسة العبادات والطقوس الدينية، في الوقت الذي يعزفون فيه عن المشاركة الاجتماعية والسياسية. والواقع أن أحد التفسيرات المحتملة لهذه النتائج، هو أن هنالك نوعاً من الهروب الديني وليس تديناً". (الدين في المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، 1990، ص150). ومن السهولة بمكان العثور على شواهد حية من واقع حياة المسلمين اليوم، تدعم هذه الملاحظة، وبخاصة في مجال ممارسة العبادات كالصلاة والصيام والحج، أو في مجال المعاملات، أو غير ذلك، حيث ساد الأداء الشكلي والاهتمام بالمظاهر. وقلة التقوى! ويلاحظ الكثير من الباحثين الآخرين أن العلاقة بين الدين والمجتمع في العالم العربي إما متوترة أو في طريقها إلى التوتر والتأزم! وإذا قارنا الممارسة السائدة للدين والمفاهيم المحاطة بها والمبررة لها، وبخاصة ظاهرة تسييس الدين وأدلجته، لوجدنا ثلاث نقاط احتكاك قد تكون بؤر توتر، بل إن بعض المجتمعات الإسلامية تعايش اليوم هذه المشاكل: الأولى، محاولة فرض نظام سياسي ديني مستقى من تجارب القرن الهجري الأول وبدايات الدعوة الإسلامية، والثانية، التصادم بين القوانين السائدة في مختلف نواحي الحياة، وبين التشريعات التي تُقدم باسم الإسلام، والثالثة، التضييق على الحريات الاجتماعية وحرية الفكر والنشر. فما يكاد يمر أسبوع أو شهر، إلا ويعلو الصياح هنا أو هناك من ظهور دعوى إلى إقامة "نظام إسلامي" في بلد ما، أو صدور فتوى غريبة بتحريم أو إباحة، أو لجوء السلطات الدينية إلى منع بعض الكتب أو المنتوجات الفنية وهكذا! ولا جدال في أن الدين ظاهرة طبيعية في كل مجتمعات الأرض، وأن الجماعات الإسلامية المختلفة، كالإخوان المسلمين والسلفيين والأحزاب الشيعية وغيرها، قادرة على الوصول إلى أعماق الجذور الشعبية وتحريكها، وعلى تحقيق نجاحات انتخابية باهرة، إلا أن العديد من الأسئلة لا تزال تُطرح في مختلف المجتمعات العربية من قبل المفكرين والقيادات السياسية، عن دور الدين والقوى الدينية في هذا العصر وهذه الظروف، ومستقبل العالم العربي في ظل مختلف الاحتمالات الواردة. إن المعارضة السياسية في العالم العربي مثلاً بيد القوى الإسلامية، ولكن هل التغيير الديني الذي يقوده الإسلاميون يأتي بالتحديث والديمقراطية والتنمية والتجديد الثقافي الاجتماعي الشامل؟ هل "القيادة الإسلامية" هذه، ستدمج العالم العربي بالنسيج الدولي المتقدم واقتصادياته الحيوية استثماراً وتقنية وسوقاً؟ فنحن للأسف الشديد لا نرى مثل هذا الاحتمال قائماً، ونرى المستقبل في ظل هذه التيارات الدينية. قاتماً! وإذا كان مثل هذا التعثر متوقع الحدوث، فما الموقع المطلوب من مفكري العالم العربي ومثقفيه إزاء الإسلام السياسي؟ هل هو الإعجاب والمديح لمواقفه السياسية ومعادلاته "للاستعمار والامبريالية والاستسلام؟، كما نسمع ونرى منذ عقدين أو ثلاثة، أم ينبغي لقوى الفكر والثقافة في بلداننا، أن تدرك جيداً مخاطر التسلط الديني والاستبداد الأصولي، وكيف يمكننا أن نختار بين الإسلام السياسي القادم، والفساد السياسي الحالي، القائم الدائم؟ هل يمكن وصول الإسلاميين والقوميين والليبراليين، إلى تعريف مشترك للفساد والتنمية والتحديث والتخلف؟ أم ستبقى منطلقات الإسلاميين دينية أخلاقية شعائرية؟ ومنطلقات الآخرين مادية إحصائية؟ إن الإسلاميين يشيرون دائماً إلى انتخابات الجزائر عام 1991، والتي لم تتح لجبهة الإنقاذ لإسلامية فيها استلام السلطة. ولكن الكثير من الإسلاميين الواقعيين كانوا يشكون آنذاك في نجاح الجبهة سياسياً واقتصادياً ودولياً، ولا يزالون وكذلك بعض أبرز الكُتاب. الأستاذ فهمي هويدي، الكاتب الإسلامي المعروف، كان هناك في الجزائر، وكتب يقول: "أمضيت ثلاث ساعات في مناقشة مع رئيس الجبهة ومؤسسها الدكتور عباس مدني، أدركت خلالها أنه يعرف الجزائر جيداً. لكن إحاطته بتعقيدات اللعبة السياسية، أو ما يجري في الكون شديدة التواضع والتبسيط. وعندما أتيح لي أن اقترب من الجبهة في العام الماضي، لاحظت أن الرجل الثاني في القيادة، علي بلحاج، يجسد أزمتها بشكل مكثف، ليس فقط على مستوى التفيكر والوعي السياسي، بل على صعيد فهم الإسلام ذاته أيضاً، واستيقنت آنذاك أن قيادة الجبهة ربما نجحت في تسيير مظاهرة أو تحريض الشارع الجزائري الساخط والمحبط بطبيعته، وفي أحسن الأحوال ربما جاز لها أن تشكل حزباً يشاغب على السلطة ويستثمر رصيد الغضب الجماهيري في الضغط عليها، أما أن تُعد تلك القيادة بديلاً للسلطة والحكم في البلاد، فذلك احتمال يمثل مجازفة كبرى، ويدعو إلى القلق البالغ" (مقال قراءة ثانية للحدث الجزائري. لا يخفى، حقيقة، أن جانباً كبيراً من إشكالات العالم العربي وأزماته الدينية سببها التسييس والأدلجة وحشر الدين في كل صغيرة وكبيرة، بسبب تنافس الأحزاب والأقلام والمنابر "الإسلامية"، منافسة لا تتسبب في إغلاق نوافذ الابتكار والحرية والتجديد في مجتمعاتنا فحسب، بل تمنع تماماً بلورة أي رؤية إنسانية حديثة للإسلام، مناسبة للقرن الحادي والعشرين. وإذا كان الشعار الذي يردده الإسلاميون دائماً هو أن "الإسلام صالح لكل زمان ومكان"، فالعقل كذلك، الذي يمثل أرقى ما في الكائن البشري من جوارح، صالح كذلك لكل زمان ومكان! إن الكثيرين منا يتباهون بالحضارة الإسلامية، وبالتسامح الديني في الأندلس مع المسيحيين واليهود، وعن الجهود الضخمة التي بذلت في مجالات الآداب والفنون والفكر والفلسفة، وعن الاهتمام بالترجمة والتأليف وإعداد الموسوعات. فهل الجماعات الإسلامية وأتباعها، بجيوشهم الجرارة، وبكثرة الخريجين والمتعلمين في صفوفهم، أرسوا لحضارة إسلامية جديدة، أو أتحفوا الفكر والثقافة والأدب بشوامخ الأعمال؟ ترى، كيف نستطيع أن ننقذ تراثنا وأن نغرس الديمقراطية، سياسةً وقيماً، في البيئة العربية؟ إن جواب الإسلاميين والقوى المحافظة في كل الأحوال، الإشارة للماضي، وما قيل في كذا وما زكى في تلك الواقعة! ولكن العالمين العربي والإسلامي، إزاء أوضاع وتحديات جديدة، وفي وسط عولمة وصراع - أو حوار!- حضاري، وثورة معلوماتية، وفتوح إعلامية سمعية بصرية رقمية، تكاد تكتسح كل ما ألِفْناه! ويطالب الليبراليون والعلمانيون بخاصة، بعزل الدين عن الدولة أو عن الحكم أو عن التشريع، ولكن كيف؟ هل يمكن مثلاً فرض علمانية مثل علمانية أتاتورك في مصر والجزائر والسودان والعراق والسعودية؟ وكيف يمكن الجمع بين مناداتنا بالديمقراطية وبين فرض مثل هذه العلمانية الصارمة دون موافقة أغلبية الجمهور؟ وما العمل إن رفضت الجماهير ذلك، وطالبت بالعودة إلى "التشريعات الإسلامية" ورفضت كل "القوانين الوضعية"؟ وماذا إن رفضت المرأة الحرية الاجتماعية والمشاركة السياسية، بل وحتى المساواة في الميراث؟ الدين في المجتمع العربي ليس بؤرة اهتمام شعوب هذه البلدان العربية وحدها، فثمة تقارير دولية تعد سنوياً عن حرية العبادة وحقوق الأقليات وغير ذلك، وهناك مراقبة عالمية للإرهاب والتسهيلات الممنوحة والخطوات الممنوعة، وكل دولة تربح أو تخسر النقاط! كما أن المهاجرين المسلمين من الدول العربية قد نقلوا الكثير من مشاكل مجتمعاتهم معهم إلى المهاجر، فصارت عيوبهم ومثالبهم وأحياناً نشاطاتهم الإرهابية... القشة التي تقصم ظهر البعير!