عاد الرئيس السوري بشار الأسد إلى اتهام "شمال لبنان" والإرهابيين فيه بتصدير الإرهاب إلى سوريا، بل وذهب إلى أنّ بعضَ أطراف 14 آذار كانت تُموّل ذلك الإرهاب! وهذا الحديث نفسُهُ كرره الأسد عَلَناً ثلاث مراتٍ على الأقلّ خلال شهرين، كما ذكره الجنرال عون عشرات المرات، فضلاً عن صحف "المعارضة" وهي معظمُ الصحف اليومَ في لبنان! وكنا نذهب على أثر حدوث أي انفجارٍ في سوريا إلى أنّ ذلك مصطَنَعٌ، وجزءٌ من الألاعيب والصراعات داخل النظام، ولتصوير النظام ضحيةَ الإرهاب أيضاً، بدلاً من اتّهامه من جانب الأميركيين والعرب بإرسال الإرهابيين إلى العراق ولبنان. لكنْ، وبعد تكرُّر ذلك بدون دوافع ظاهرة، يمكن للمرء أن يتأمل الأمر من وجهة نظرٍ أُخرى محتَمَلة بل مُرجَّحة. فقد استقدم النظام السوري أُلوفاً مؤلَّفةً من مُريدي"الجهاد" في العراق ضد الأميركيين وكانت سوريا هي ساحة التدريب والتنظيم لهؤلاء، إضافةً طبعاً للمئات إن لم يكن الآلاف من السوريين واللبنانيين أيضاً. وهكذا اجتمع لدى النظام السوري ملفَّان أو حقيبتان بعد العام 2000 إضافةً للحقائب الأُخرى الموروثة من أيام الرئيس حافظ الأسد في عقود الحرب الباردة: الحقيبة الجديدة والتي اكتسبت أهمية؛ إمكان التأثير على الأحداث في العراق ومساومة الولايات المتحدة على هذا الأمر، والحقيبة الأخرى القديمة المتجددة هي المخيمات الفلسطينية في لبنان، وإمكانية استخدامها بأشكالٍ جديدةٍ من ضمنها تهديد السلطة اللبنانية بها، ومن ضمنها العمل على الانقسام الفلسطيني "فتح -حماس" ومتفرعاته. وخلال السنتين الأخيرتين على الخصوص، تعذّر على الأجهزة السورية الاستمرار في العمل بالعراق بالأسلوب السابق، فتحول جزءٌ من تلك القوى باتجاه لبنان، أي "الجهاديين" الذين كانوا ينطلقون من سوريا إلى العراق وَجّه النظام جزءًا منهم إلى لبنان، إضافةً إلى العناصر الفلسطينية الجاهزة؛ وتلك كانت قصة" فتح الإسلام". والذي يغلبُ على الظنّ الآن أنّ هؤلاء "الجهاديين" سواءٌ أكانوا سوريين أم فلسطينيين أم عرباً آخرين، بدأ بعضُهم يخرج عن السيطرة، ويتجه لقتال النظام السوري، إمّا لانزعاجهم من عدم تمكينهم من الذهاب للعراق، أو لأنهم صاروا يرون أنّ النظام السوري لا يختلف عن الأنظمة الأُخرى. فهذه قد تكون خلفية التفجيرات الأخيرة في سوريا مع عدم انتفاء الاحتمالات الأخرى التي ذكرناها. أما التفجيرات في لبنان، والتي يُقالُ تارةً إنّ بقايا "فتح الإسلام" تقوم بها، كما يُقال تارةً أُخرى إنّ "الإرهابيين السلفيين" هم الذين يقومون بها (حسب الرئيس الأسد والجنرال عون)؛ فلا شكَّ أنها من نفس المصنع، كما كان عليه الأمر خلال العقدين الأخيرين. إنما لماذا هذا الإصرار على الاتهام لقوى لبنانية أو عراقية بالتسبُّب في الإرهاب بسوريا ولبنان؛ وفي هذا الظرف بالذات، فيبدو أنه يحدث لعدة اعتبارات؛ أولها تغطية التحول السوري البطيء لكنْ الثابت من معسكر إلى معسكر، وثانيها إرباك القوى المخاصِمة لسوريا في هذا الوقت الذي يغيب فيه الاهتمام بسبب الانتخابات الأميركية، والأزمة المالية العالمية. وثالثها العمل على إزعاج المملكة العربية السعودية التي تُقاطِعُ النظام السوريَّ بسبب تدخلاته في لبنان، وقضايا أُخرى خلافية. ورابعُها مسألة المحكمة ذات الطابع الدولي لمحاكمة قتلة الرئيس الحريري، وإمكان المساومة عليها مهما تأخر الوقت. وقد اقترن التصريح الأخير للرئيس السوري بالإعلان عن علاقاتٍ دبلوماسيةٍ مع لبنان، وكأنما ليقول النظام إنه متوافقٌ مع الإرادة الدولية في تطبيع العلاقات بين البلدين، وهو يستطيع أن يكونَ ذا فاعليةٍ أيضاً في "مكافحة الإرهاب" الموجود في لبنان. وهو يستطيع ذلك بالفعل لأنّ المتفجرات والمفجَّرين معروفو المنشأ والهوية والمصدر والأهداف. وإذا كانتْ هذه هي طريقة النظام السوري لإعادة التموضُع، أو أنها جزءٌ من تلك الطريقة؛ فإنّ الجوانب الأُخرى لإعادة التموضع تجري في فلسطين والعراق. فـ"حماس" تستقوي بمرحلة الخمود والترقب هذه، وبالغَزَل الإسرائيلي المخاتل، وتريد الانتظار لحين انتهاء فترة رئاسة محمود عباس آخِر هذا العام، ليتساوى الجميع في عدم الشرعية، وكأنما يخدم ذلك القضية الفلسطينية! والذي سيحدُث بسبب تعذر الانتخابات أن تسوّي إسرائيل بين الطرفين المتصارعين، وأن تقول للمجتمع الدولي إنه ليس هناك شريكٌ يمكن التفاوُضُ معه! فالأمر كما قال أمين عام الجامعة العربية أنّ مشروع الدولة الفلسطينية صار بسبب الانقسام الفلسطيني في مهبّ الريح! وتحتار الأطراف العراقية في كيفية التموضُع في مرحلة الانتظار هذه. هناك مَنْ يقول لا داعيَ للاتفاق مع إدارة بوش الآن على أيّ شيء ما دامت زائلة، وهناك من يقول: بل نتفق معها لأنّ الشروط مُلائمة. وهناك ثلاثة أطراف على الأقلّ لا تريد أيَّ اتفاقٍ مع الولايات المتحدة وهي: إيران ومقتدى الصدر والمقاتلون والمُعارضون السُنّة. وأهدافُ هؤلاء تختلف طبعاً، لكنهم جميعاً يعتبرون أنّ الولايات المتحدة تغوص في الوحل، ولابد من تسريع هزيمتها، وبعد خروجها لكل حادثٍ حديث! وإذا أضفْنا لذلك اتّساع الهوة بين العرب والأكراد على كركوك بل ومناطق أخرى، يتبين لنا أنّ الأطراف الداخلة في العملية السياسية المترجرجة أيام رئاستي بوش، تُعاني من قلقٍ ومخاوف شديدة من المستقبل بسبب طبيعة تعامُلاتها ومصالحها وهي لا تستطيع أن تحسِم الأمر فيما بينها، حتّى وهي تُواجِهُ "القاعدة" وإيران والفوضى الداخلية القاتلة. وهناك بلدٌ عربيٌّ رابعٌ على طرف الشرق الأوسط هو السودان، والذي كانت لديه ثلاث أزمات، وظهرت أزمةٌ رابعة. كانت لديه أزمة الجنوب، وأزمة دارفور، وأزمة الإدارة الداخلية، ثم ظهرت لديه مسألة المحكمة الجنائية الدولية واستدعائها للرئيس البشير أو اتّهامها له. كل يوم تقريباً تعرض الحكومة السودانية مبادرةً، يسارع الدارفوريون الثائرون إلى رفضها، لأنّ اتهام المحكمة الجنائية الدولية قَوَّى جانبهم. وما دام الأمر دائراً بين الاستقواء والاستضعاف؛ فإنَّ السودان سائرٌ إلى تفكُّك. لقد عانى العالَم طوال ثماني سنوات من استبدادية إدارة بوش وأوحديتها. وكان الشرق الأوسط بالذات موطناً وجبهةً لحروب الأوحدية. ويُعاني العالَم والشرق الأوسط الآن من فشل الأوحدية وتراجُعها. ذلك أنّ الذي سيخلُفُ الأوحدية في هذه المنطقة (الشرق الأوسط والخليج) ليس الحرية والشعور بذهاب العبء والوطأة؛ بل الفوضى والانقسامات الدينية والإثنية. ذلك أنّ الأوضاع المهزوزة الآن هي إمّا من مخلَّفات الحرب الباردة، أو من تلك التي خلقها الغزو الأميركي، أو دمرت مقوماتها العسكرية الأميركية في السنوات الماضية. ولا حديثَ الآن عمن سيخُُلفُُ الولايات المتحدة، وإنما كيف يمكن الإفادة من الضعف الأميركي، للحلول محلَّه، أو في بؤَره، وقد يصل الأمر إلى الحصول على تكليفٍ منه أو غضّ طَرْف. ولله الأمر من قبل ومن بعد.