لم يبدأ تاريخ سنغافورة في عام 1819 حينما وضع "ستامفورد رافيلس"، أحد دهاقنة الاستعمار البريطاني، لكن أكثرهم ثقافة وامتلاكا للرؤية الصائبة، قدميه فوق هذه الجزيرة الصغيرة. نعم، تنبأ الرجل لها بمستقبل واعد بفضل وقوعها على مفترق الطرق التجارية في منطقة بحر الصين الجنوبي، لكن هناك سجلات تقول بأن الجزيرة كانت منذ القرن 13 موضوع تنافس وصراع ما بين ملوك سيام وجاوة وسومطرة، بل وأيضا ملوك تشولاً الهنود. لم تكن سنغافورة يوم أن وصلها "رافيلس" سوى قرية صغيرة لصيادي الأسماك الخاضعين لسلطة إمبراطورية "ماجاباهيت" الإندونيسية التي كانت قد شقت طريقها نحو سنغافورة من مضيق "ملقا" في مطلع القرن 15 . ورغم أن "رافيلس" لم يمكث في الجزيرة سوى عام واحد، فإنه استطاع أن يترك بصماته على مستقبلها ومستقبل سكانها الذين تزايدوا بأعداد كبيرة بمجرد وصول الإنجليز إليها والإعلان عن تحويلهم لها إلى ميناء حر في يناير 1819 . ويبدو أن هذا الإعلان لعب دوراً مفصليًا في إغراء الكثيرين من التجار والمغامرين وأصحاب المدخرات في الهجرة إلى سنغافورة من الهند وسريلانكإ وإندونيسيا والصين وجنوب اليمن ولا سيما في نهايات القرن 19 . فطبقا لأول إحصاء سكاني قام به الإنجليز في سنغافورة عام 1824 كان عدد السكان 11 ألف نسمة مقابل 6 آلاف نسمة يوم وصول "رافيلس" إليها. ورغم التهام النمور المتوحشة لنحو 300 من المهاجرين في خمسينيات القرن 19 أثناء عملهم في مشاريع كنس الغابات وتهيئتها للتعمير والإنتاج، فإن معدلات الهجرة من المناطق المذكورة لم تنقطع، بل تضاعفت، محولة سنغافورة إلى أحد أكثر الموانئ وهجاً ضمن الإمبراطورية البريطانية قبل نهاية ذلك القرن. ومن المفارقات هنا أنه بينما تأثرت أنشطة مناطق كثيرة أخرى في العالم جراء تداعيات الحرب العالمية الأولى، فإن سنغافورة لم تتأثر إطلاقاً، بل حافظت على سمعتها كمحطة تجارية حرة للاتجار بمختلف السلع، كما استفادت كثيراً من الطفرة التي شهدتها الملايو من زراعة المطاط وتصديره. وتذكر الاحصائيات أنه مع نهاية عام 1911 ارتفع عدد سكان الجزيرة إلى ربع مليون نسمة، ووصل عدد الأعراق المكونة للشعب السنغافوري إلى 48 عرقاً وعدد اللغات المحكية فوق التراب السنغافوري إلى 54 لغة. وإذا كانت سنغافورة لم تسلم كغيرها من تداعيات الكساد العالمي الكبير في العشرينيات في شكل انهيارات أسعار السلع وإفلاس شركات التصدير، فإن ما لا يمكن الجدال فيه هو محافظتها على موقعها كقاعدة بحرية لعمليات الإمبراطورية البريطانية في شرق السويس، وبالتالي تميزها عن سواها من المواقع بنشاط تجاري محموم ووضع أمني مستتب مع معدلات إنفاق أكبر نسبياً ومعدلات فقر أقل نسبياً. كل هذا الازدهار والنمو الذي لم يتوقف منذ أن حط "رافيلس" رحاله في سنغافورة تعرض للاختلال بمجرد دخول اليابانيين أراضي الملايو في ديسمبرعام 1941، بعد أن كانت القوات البريطانية المدافعة قد استعدت لمواجهتهم من البحر. وبعبارة أخرى فإن السقوط السريع للملايو في أيدي اليابانيين، وعدم تجاوب الإدارة المدنية السنغافورية مع دعوات الزعيم البريطاني ونستون تشرتشل للمقاومة حتى النهاية، وقيامها عوضا عن ذلك بالاستسلام في شباط 1942 تسبب في تدهور تجارة ونمو البلاد وشكل تحدياً لها، لاسيما وأنها فقدت في ظل الاحتلال الياباني (استمر ثلاثة أعوام ونصف) الكثير من كوادرها المدنية المدربة قتلًا أو تعذيباً. وبهزيمة اليابانيين في الحرب وانسحاب قواتهم من الجزيرة عاد البريطانيون المنتصرون لممارسة نفوذهم على سنغافورة، لكن هذه المرة من خلال فصلها عن الملايو ومنحها وضعية خاصة ضمن التاج البريطاني. وبالتزامن فرض البريطانيون حالة الطوارئ لمواجهة المشاكل التي كان الحزبان الشيوعيان في سنغافورة والملايو قد شرعاً في خلقها للمستعمر بتحريض من موسكو وبكين. وحينما تمكن المستعمر من السيطرة على الشيوعيين وتحجيم قواهم، برزت له تحديات من نوع آخر تمثلت في تطلعات الساسة المحليين إلى نيل الاستقلال، وذلك بعد التجربة التي مر بها هؤلاء في ظل الاحتلال الياباني والتي أثبتت لهم أن خير من يحمي البلاد ويدافع عنها هم أبناؤها. وتمهيدا للاستجابة لهذه الرغبة ومنعا للفوضى، سمح الإنجليز للسنغافوريين في عام 1948 بإجراء انتخابات حرة لاختيار مجلس تمثيلي. وهو ما تم بهدوء وفي أجواء سلمية عكست درجة تحضر أبناء هذه الجزيرة وإصرارهم على تقديم نموذج للتعايش والتنوع الاثني والثقافي. واستكمالا للمسيرة نالت سنغافورة الحكم الذاتي في عام 1955، وهو نفس العام الذي أجريت فيه أول انتخابات نيابية كاملة وتم فيه انتخاب رجل ينحدر من أصول يهودية عراقية ويملك سمعة مرموقة ومؤهلات عالية في سلك المحاماة (داوود مارشال) ليكون أول رئيس حكومة للجزيرة. لكن مارشال لم يبق في السلطة إلا أقل من عام، وخلفه فيها "ليم يو هوك"، الذي تولى المفاوضات مع لندن حول الاستقلال التام في ظل دستور جديد، وهو ما تحقق في عام 1959. على أنه مهما قيل في الأدوار التي لعبها هوك وأسلافه، فإن التغيرات الهائلة التي شهدتها الجزيرة ونقلتها من ميناء خامل إلى بلد يعج بالضجيج والحركة وينظر إليه في العالم بأسره كنموذج للنجاح والتقدم والريادة التنموية يعزى إلى حد كبير إلى الرؤية الصائبة لرجل واحد هو زعيم حزب العمل الشعبي "لي كوان يو"، الذي وصل إلى السلطة في انتخابات عام 1959، ولا يزال فيها تحت مسمى الوزير الناصح، لقد وظف الرجل انتماءه إلى العرق الصيني ليقنع بكل الوسائل الإثنية الصينية ضمن التركيبة السكانية السنغافورية، بأن قدرهم هو الالتحاق بالاتحاد الماليزي فنجح في هذه المهمة الشاقة، حيث صوتوا في اقتراع تاريخي في سبتمبر 1963 لصالح الانضمام إلى ماليزيا، قبل أن يدب الخلاف بين زعماء البلدين ويعلن "لي كوان يو" انسحاب بلاده من الاتحاد في أغسطس 1965، دونما اكتراث بالأصوات التي تعالت ضد الاستقلال. فالرجل المحنك كان يعرف مدى أهمية بلاده على مفترق طرق التجارة العالمية، وكان يعرف أهمية العنصر البشري السنغافوري المدرب في جلب الرخاء، كما كان يدرك مدى حاجة أكثر من مئة ألف جندي بريطاني مرابط في سنغافورة للخدمات الممكن تقديمها بمقابل مجز يؤثر إيجاباً على معيشة وأحوال السكان. وبمعنى آخر لم يكن الرجل من أصحاب الشعارات والأيديولوجيات المؤدية إلى الإفلاس والفقر كحال بعض نظرائه في الجوار، ممن ركزوا على مقارعة الاستعمار وتركوا تنمية الوطن وازدهاره إلى تاريخ لاحق. ورغم هذه الحقائق، فإن الرجل لم يكن مقتنعاً بالمصدر الرئيسي الوحيد لدخل بلاده والمتمثل في ما يتأتي من موقعها في المياه العميقة وعلى مفترق أكثر المضايق التجارية ازدحاماً أي مضيق "ملقا". كما لم يكن مقتنعا بأن الدخول المتأتية من الميناء بإمكانها تحقيق تطلعات شعبه الآخذ في الازياد. وعليه شرع هو ورفاقه في تنفيذ برنامج طموح لتصنيع البلاد وتحويلها إلى مركز عالمي للخدمات. هذا البرنامج الذي لئن تخللته القسوة في بعض المنعطفات، فإنه ضمن في نهاية المطاف لسنغافورة مستقبلاً مشرقاً. حيث قامت الحكومة أولاً بإصلاح الأراضي الساحلية الواقعة إلى غرب الجزيرة لتأجيرها لمن يرغب من المستثمرين الصناعيين، ثم وضعت قوانين تنظم شؤون العمالة لتحد من قدرتها على التظاهر والاشتغال بالسياسة وإضاعة الوقت في الأمور الفارغة، وبعدها دشنت أحد أكثر برامج الإسكان العام الآسيوية طموحاً، واتبعت ذلك بفرض قوانين الضمان الاجتماعي على النمط الغربي. على أن ما يحسب للرجل قبل كل هذا كله، هو قيامه بالاستثمار في الإنسان السنغافوري من خلال التعليم والتدريب العاليين والمناهج الدراسية الراقية.