الزيارة التي قام بها الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة إلى العراق بتاريخ 7 أكتوبر 2008، والتي سبقتها زيارة أخرى قام بها سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية، تنم عن مواقف راسخة وسياسة خارجية واضحة تنتهجها دولة الإمارات تجاه العراق، وتوضح أن الإمارات راغبة بصدق في العمل الجاد لإخراج العراق من محنته الشديدة التي يمر بها، والمساعدة في إعادة بناء الدولة والمجتمع والاقتصاد فيه، الكثير من الأطراف العربية والدولية الأخرى تتحدث حول نفس الموضوع، ولكن القليل منها هو الذي بادر وسعى لكي يتبنى فكراً ومنهجاً واضحيْـن تجاه العراق بنفس الطريقة التي تعمل بها سياسة دولة الإمارات الخارجية. تحرك الإمارات الحالي يأتي لأن العراق يقف اليوم عند مفترق طرق مصيري بالنسبة لتماسك الدولة والمجتمع فيه، ومع سيره نحو مستقبل مجهول لو استمرت الأوضاع على ما هي عليه الآن، ولم تتحرك الأطراف التي يهمها أمره لإنقاذه، فإنه سيأتي اليوم الذي ينزلق فيه إلى هاوية الدولة الفاشلة، لأن العنف بين فئاته المجتمعية يتأجج، الأمر الذي سيؤدي حتماً إلى نهايته وتفككه كدولة متماسكة، ويتحول إلى شبه دويلات طائفية. لكن إذا استطاعت الأطراف الساعية إلى إنقاذه من هندسة تصميم عملي يمنع تفككه ويجتث العنف الذي يسيطر عليه منذ 2003، فإن ذلك سيشكل نقطة البداية المنشودة كمخرج عملي من الأزمات المتفاقمة فيه. ويبدو أن تحركات دولة الإمارات الأخيرة على هذه المستويات العالية تهدف إلى ذلك. إن مساعي دولة الإمارات الأخيرة من خلال زيارة سمو الشيخ محمد بن زايد تهدف إلى نزع فتيل العنف المستشري بين فئات الشعب العراقي المختلفة، وإلى تعزيز موقف الحكومة الحالية لتحقيق ذلك، وهذا تحرك إماراتي محسوب بدقة، لأنه إذا ما تحقق نزع فتيل العنف بكافة أشكاله وتوصل العراقيون إلى نعمة التشاور فيما بينهم، وإلى قبول بعضهم بعضاً كمواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات متساوية، فإنه ستصبح لدى القطر حينئذ فرصة للخروج مما هو فيه. دعم دولة الإمارات للحكومة القائمة، ومساعدة العراق على بناء قواته الأمنية الرسمية ودعمه اقتصادياً، وعمل دبلوماسية الإمارات على التقريب بين وجهات نظر كافة فئات المجتمع المتناحرة من أجل تخفيف حدة العنف فيما بينها، خاصة فيما يتعلق بنزع فتيل الغبن الذي يعاني منه السُّنة ومحاولة تحقيق الحد الأدنى من مطالبهم واقتناعهم بذلك، وبالتأكيد العمل على إقناعهم بالتخلي عن دعم بعض الجهات التي تحاول تصوير الوضع لهم بأنه صراع بين السُّنة والشيعة، وبأنه سحب لكافة حقوقهم كمواطنين عراقيين، هي أمور ربما تكون كفيلة بأن تشكل الأساس، الذي يمكن من خلاله الحكم على أن العراق لن ينزلق نحو الهاوية مرة واحدة وإلى الأبد كدولة موحدة ومتماسكة. تأثير تجربة دولة الإمارات الحالية مع العراق من خلال زيارة سمو الشيخ محمد بن زايد سيكون ذا شقين أحدهما قصير المدى والآخر طويل المدى، وستأخذ وقتاً إلى أن تتضح نتائجها. فعلى المدى القصير، لابد أن تتحرك دولة عربية وأجنبية أخرى لكي تسير على خطى دولة الإمارات وتعمل منفردة ومجتمعة لمساعدة العراق على النهوض والتخلص من حالة الانحدار التي تسير إليها الأوضاع فيه. أما على المدى الطويل، فإن نجاح دولة الإمارات في مساعيها سيحدث تغيرات إيجابية على صعيد الخليج العربي والمنطقة العربية وجوارها الجغرافي. لذلك، فإن زيارتيْ كل من سمو الشيخ محمد بن زايد وسمو الشيخ عبدالله بن زايد إلى بغداد تستحقان الإشادة، لأنهما كسرتا الأنماط التقليدية في توجيهات كافة الدول تجاه العراق، والتي اقتصر معظمها على الأحاديث اللفظية الشفهية عن شؤونه دونما تصاحب ذلك تحركات عملية إيجابية عالية المستوى كما فعلت دولة الإمارات. وبالتأكيد، فإن الدول والشعوب ذات النوايا الحسنة تجاه العراق في كافة أرجاء العالم تأمل أن تنجح مساعي بناء الدولة والمجتمع والاقتصاد فيه، لكن الجميع يعلم أيضاً أن المثال العملي الحي الذي قدمته دولة الإمارات ليس أمراً سهلاً على مسؤولي دول العالم الآخرين القيام به، وأن النجاح ذاته يجب أن يعزز الفرص المتاحة لتشكيل إطار دولي جديد لحل مشكلة العراق. وعليه، فإن من الواجب فهم أن أية سياسة خارجية قائمة على الشجاعة والثقة بالنفس كالتي تمارستها دولة الإمارات تجاه العراق، لا يجب أن تمر من أمام كافة الدول المعنية بالشأن العراقي مرور الكرام دون أن يبادر العالم كافة للاستفادة منها لخلق الأجواء المناسبة للتقريب بين أبناء الشعب العراقي بكافة أطيافهم، لكي يعملوا سوياً لإخراج وطنهم مما هو فيه.