ثارت ثائرة الفرنسيين الثلاثاء الماضي حين علت صيحات الجمهور الفرنسي الذين تعود أصولهم لشمال المغرب العربي مستهجنة ومقاطعة السلام الجمهوري الفرنسي أثناء عزفه قبل مباراة "ودية" جرت بين المنتخب الفرنسي ونظيره التونسي. الفرنسيون قرروا في اجتماع رسمي للحكومة وقف المباريات التي تتم فيها إهانة العلم والنشيد الفرنسيَّيْـن، وهو قرار عاطفي يعاقب كل الملتزمين بالقانون والآلاف الأخرى من الجماهير التي تحضر المباريات نظير دفع مبالغ للتذاكر. القرار شبيه بقرار ارتجالي لحظي اتخذته الشرطة الكويتية بعيد الفطر الماضي بوقف حفل للمطرب المصري تامر حسني لأن مراهقة علت المسرح وعانقت الفنان وقبلته. قرار وقف الحفل عاقب العشرات الآخرين الذين دفعوا مبالغ لتذاكر الحفل والعشاء، فلا هم تعشوا ولا هم طربوا بسبب فعل لم يرتكبوه!! لكن الحادثة الفرنسية التي تتكرر كلما لعب المنتخب الفرنسي مقابل أي من المنتخبات العربية لدول شمال أفريقيا، تطرح في فرنسا بقوة مسألة ولاء الملايين من الفرنسيين من أصول أفريقية، وتعطي زاداً لليمين في أوروبا للتذكير بضرورة الحد من الهجرة- بل وربما ما هو أسوأ: فقد ترددت صيحات يمينية تنادي بالتخلص من هؤلاء الذين "يعيشون بيننا ومن خيراتنا ويصفقون لفرق أجنبية وليس لفريقنا". وهذه العبارة هي فحوى تصريحات أطلقها الوزير البريطاني في حكومة مارغريت تاتشر في نهاية الثمانينات -جو تيببت- تعليقاً على هتاف البريطانيين من أصول باكستانية للفريق الباكستاني ضد نظيره الإنجليزي في مباراة كريكيت. والذي يختبر الولاء لبريطانيا حسب تشجيع "المتجنس" في مباريات الكريكيت. حادثة الثلاثاء الماضي بباريس تعيد الجدل ثانية حول مبادئ الليبرالية الديمقراطية في زمن العولمةما هي الحدود المسموح بالحفاظ عليها من ثقافتك الأصلية إذا ما قررت أن تصبح مواطناً غربياً؟ أو مواطناً في دولة تؤمن بمبادئ الليبرالية الديمقراطية؟ وهل يعني إيمانك بهذه المبادئ التخلي بالضرورة عن كل ثقافتك الأصلية؟ وماذا لو تعارضت ثقافتك الأصلية مع مبادئ الدول التي هاجرت إليها -لأي سبب كان- وقررت أن تصبح من مواطنيها؟ وهل مطلوب منك تقديم تنازلات أكثر من أجل اندماجك في ثقافة بلدك الجديد، أم العكس؟ وهل من المعقول أن تطالب -وأنت القادم الجديد- ثقافة بلدك الجديد بالتنازل عن مبادئها حفاظاً على خصوصيتك الثقافية ولو عنى ذلك تعارض تلك الخصوصية مع مبادئ، بل وقوانين بلدك الجديد؟ وهل استغل البعض مبادئ الليبرالية الديمقراطية لنشر فكر متخلف ومتطرف بأوساط المهاجرين تحت ذريعة الحفاظ على الهوية الثقافية؟ المعارضون للغضبة الفرنسية يرون أن هؤلاء المهاجرين يعبرون عن امتعاضهم من أوضاعهم المعيشية أكثر مما يعبرون عن ولائهم لدولهم الأصلية، لأنه لو كان ولاؤهم لدولهم الأصلية أقوى من دولهم التي اختاروا الهجرة إليها لعادوا من حيث أتوا. كثيرون يرون أن الحدود الدولية والفروقات الثقافية والدينية قد تلاشت أمام الانهيار الشامل لأسواق المال العالمية، ويرون في شمولية الانهيار دليلاً على تنامي ظاهرة العولمة التي تتأثر بأحداثها أقصى بقاع الأرض، فلم يهتف المضاربون اليابانيون للهبوط الحاد في سوق "وول ستريت" الأميركي، ولم يرقص سوق باريس طرباً لانهيار سوق لندن، ولم يوزع بنك "باركليز" الإنجليزي الحلوى فرحاً بإفلاس بنك "ليمان برذرز" الأميركي. "إذا أردت أن تعرف ما في إيطاليا، فعليك أن تعرف ما في البرازيل". مقولة كانت محل تندر وسخرية حين كان يرددها الفنان السوري الراحل نهاد قلعي في مسلسل "صح النوم" قبل أكثر من ثلاثين عاماً. كانت المقولة محل تندر وقتها قبل أن تفرض العولمة شموليتها. فازت فرنسا على تونس بثلاثة أهداف مقابل لا شيء. المفارقة أن من سجل أهداف فرنسا هما اللاعبان تيري هنري -الأفريقي الأصل، وبن زيمة -من أصل جزائري.