لقد انخفض مؤشر "داو جونز".. لا، إنه يرتفع... ينخفض، يرتفع.. ليس عليك أيها القارئ! وفي حين تسيطر مشاعر القلق على أداء أسواق المال والبورصات، وتتصدر عناوينها وأخبارها الصفحات الأولى للصحف، وتطغى على البرامج التلفزيونية والإذاعية، فإن هناك قصة أخرى أكثر إثارة للقلق من أسواق المال، ألا وهي مأساة الاقتصاد الحقيقي. ذلك أنه بدا واضحاً الآن أن إنقاذ البنوك والنظام المالي ليس سوى مجرد بداية لحل الأزمة الاقتصادية في مجموعها. والسبب الذي يدعونا إلى هذا القول هو نشوء الحاجة الماسة لدعم القطاعات الاقتصادية غير المالية بالقدر نفسه. وفي سبيل تقديم هذا الدعم، فإن من الواجب أن نضع بعض عصبياتنا جانباً. وكما نعلم فما أسهل أن نثير الانتقادات السياسية ضد الإنفاق الحكومي، وأن نطالبها بالتحلي بالمسؤولية المالية. غير أن الذي أعلمه الآن، أن زيادة الإنفاق الحكومي هي الوصفة العلاجية العاجلة التي أوصى بها "الطبيب" الاقتصادي. وتتضمن هذه الوصفة أن نضع جانباً قلقنا على عجز الموازنة العامة في الوقت الحالي. ولكن قبل أن أمضي إلى شرح تفاصيل هذه الوصفة العلاجية، دعونا نتحدث قليلاً عن حقيقة الوضع الاقتصادي الراهن. فخلال هذا الأسبوع علمنا أن مبيعات التجزئة قد انهارت انهياراً مروّعاً وفي خط عمودي. وبالقدر نفسه، فعلت المنتجات الصناعية. وليس ذلك فحسب، بل انخفضت أيضاً بدرجة مقلقة معدلات البطالة إلى حد الركود العميق، في حين بلغ انخفاض مؤشر فلادلفيا الفيدرالي أسرع معدلات تراجعه اليوم، قياساً إلى العشرين عاماً الماضية. وعليه فإن كافة المؤشرات الاقتصادية تشير إلى أن اقتصادنا القومي ماض إلى ركود سيكون فظيعاً ووحشياً وطويلاً في ذات الوقت. فما مدى فظاعته إذاً؟ ربما كانت الإجابة هي أن معدلات البطالة قد وصلت سلفاً إلى ما يقدر بنسبة 6 في المئة، بينما تشير قياسات البطالة الأوسع إلى أرقام ثنائية مخيفة حقاً. والمؤكد الآن أن تتجاوز معدلات البطالة نسبة الـ7 في المئة، مما يجعل من موجة الكساد الحالي، أسوأ الموجات التي شهدتها خلال فترة الربع قرن الأخيرة. وسؤالنا الثاني: إلى أي مدى زمني ستطول هذه الأزمة؟ والإجابة المباشرة الموجزة، أنها ستكون أزمة طويلة جداً دون شك. ولكي نفصِّل الإجابة عن هذا السؤال، فإن علينا أن نتأمل ما حدث في الركود الاقتصادي السابق، الذي أعقب انفجار الفقاعة التكنولوجية في أواخر عقد التسعينات. وفي التصدي لتلك الأزمة، لم تكن الاستجابة الحكومية لموجة الركود تلك أقل من قصة نجاح أسطوري فيما تبدو ظاهرياً. فعلى رغم سيطرة المخاوف من أن يشهد الاقتصاد الأميركي تجربة شبيهة بأزمة الاقتصاد الياباني الذي امتدت فترة ركوده لعقد كامل من الزمان، أطلق عليها اصطلاحاً اسم "العقد الضائع"، إلا أنه نجا منها. ويعود الفضل في تلك النجاة، إلى نجاح بنك الاحتياطي الفيدرالي في صياغة خطة إنقاذ من ذلك الركود، اعتمدت بشكل رئيسي على خفض أسعار الفائدة. ولكن الحقيقة التي لا مناص من الاعتراف بها اليوم هي أن اقتصادنا بدا "ياباني الشكل" وقتها ولو إلى حين، حتى تمكن البنك الفيدرالي من استجماع قواه وسيطرته على موجة الركود تلك. فعلى رغم الخفض المتكرر لأسعار الفائدة، الذي تمكن في نهاية الأمر من خفض أرصدة الاحتياطي الفيدرالي بمعدل 1 في المئة فحسب، يلاحظ أن معدلات البطالة قد واصلت ارتفاعها على أي حال. واستغرق بدء تحسن صورة سوق العمل ما يزيد على العامين حينها. ولم يبدأ التعافي المعقول من الآثار المدمرة لموجة الركود هذه، إلا نتيجة لتمكن "آلان جرينسبان"، رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي من استبدال الفقاعة التكنولوجية المنفجرة، بأخرى عقارية حلت محلها. وها هي الفقاعة العقارية وقد انفجرت هي الأخرى الآن، مخلفة وراءها دماراً هائلاً في المشهد المالي. وحتى في حال تمكن الجهود الجارية الهادفة لإنقاذ النظام المصرفي وتحرير الأسواق الائتمانية من الجمود الذي أصابها مؤخراً بفعل الأزمة، فإن مما لاريب فيه أن التداعيات الأولية للأزمة بدت محبطة ومدمرة، مع الأخذ في الاعتبار أن الجهود الإنقاذية هذه لا تزال في بداياتها المبكرة جداً. وعليه فإنه ليس متوقعاً أن يسترد القطاع العقاري عافيته في أي وقت من المستقبل القريب المنظور. وحتى إذا ما كانت هناك فقاعة اقتصادية أخرى منتظر حدوثها، فإنها لم تلح في الأفق بعد. وهذا ما يصعب مهمة بنك الاحتياطي الفيدرالي في استجماع قواه، والسيطرة على الأزمة المالية الراهنة. غير أن في وسع الحكومة الفيدرالية عملَ الكثير لإنقاذ الاقتصاد من المحنة التي يمر بها. من ذلك على سبيل المثال: توسيع الفوائد التي يتمتع بها العاطلون عن العمل. وفي هذا الإجراء ما يعين العاطلين ويخفف الضغط الاقتصادي على العائلات المنكوبة، فضلاً عن ضمان وضع الأموال النقدية في جيوب الأفراد الذين نضمن إنفاقهم لها. وفي وسع الحكومة الفيدرالية أيضاً تقديم المساعدات المالية الطارئة لحكومات الولايات والحكومات المحلية، حتى لا تضطر هذه الحكومات إلى إجراء خفض كبير لإنفاقها العام، بما يضر بالخدمات التي تقدمها ويؤدي إلى خسارة المزيد من الوظائف. وفوق ذلك، فإن في وسع الحكومة الفيدرالية شراءَ الرهون العقارية للمواطنين، ولكن ليس أن يتم الشراء على أساس القيمة الاسمية للبيوت، كما ألمح المرشح "الجمهوري" جون ماكين، فتضمن بذلك بقاء المزيد من العائلات الأميركية في بيوتها. ثم إن هذا هو الوقت الملائم لزيادة إنفاق الحكومة الفيدرالية على مشروعات البنية التحتية على رغم كل شيء، وخاصة أنه لا مناص لها من فعل ذلك، بعد أن طال أمد تمويل هذه المشروعات والبدء في تنفيذها. والسؤال المهم الواجبة إثارته في ختام هذا المقال هو: هل تتمكن الإدارة الجديدة من التصدي لهذه الفوضى الاقتصادية؟ لا أعتقد أن ماكين سيفعل بما يعرضه من تصورات لحل الأزمة. ففي أحد الحوارات التي أجريت معه، وجه إليه سؤال عن كيفية تصديه للأزمة، فجاءت إجابته: "حسناً.. إن أول ما سأفعله هو السيطرة على الإنفاق الحكومي". على نقيض هذه الإجابة من جانب المرشح "الجمهوري"، وفيما لو كان الفوز بالمنصب الرئاسي لصالح منافسه "الديمقراطي" باراك أوباما، فإنه لن يتخذ هذا الموقف السلبي المسبق إزاء الإنفاق العام. غير أنه -لاشك- سيواجه بجوقة من المعارضين الذين لن يكفوا عن الطنين المستمر في أذنه بأن عليه أن يتحلى بالمسؤولية في الإنفاق، وأنه لا مجال للتسامح مع أي عجز مالي إضافي في الخزانة العامة في العام المقبل، حتى وإن فعلت الحكومة ما ينبغي، ويصح لها أن تفعله. ولكن على أوباما أن يتجاهل هذا الطنين تماماً، ويدرك أن الأمر الصحيح الوحيد الذي ينبغي عليه القيام به، هو تقديم المساعدة اللازمة للاقتصاد القومي. فليس هذا الوقت وقتاً للقلق على عجز الخزانة الفيدرالية، إنما هو وقت للقلق على التعافي الاقتصادي وإنقاذه من الركود. ---------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"