صدرت فتوى مؤخراً من أحد العلماء بقتل بعض مديري القنوات الفضائية، إلا أن قتل المخالفين في الرأي لا تقره شريعة ولا قانون ولا عقل ولا عرف وإلا لصفَّى الكل الكل طبقاً لموازين القوى وطرق التصفية، القتل بالشريعة ثم الاغتيال باسم الشريعة، وكأن الشريعة لا تعرف إلا القتل والاغتيال مما يعطي الذريعة للغرب لاتهام الإسلام بـ"الإرهاب" والعنف والقتل مع أبنائه، ومن باب أولى مع غرباء عليه في لندن ومدريد. والحال أن الخلاف سُنة الحياة. ولا يمكن توحيد عقول الناس ولا مشارب البشر. الطبيعة متعددة الألوان، والبشر متعددو الأقوام واللغات، (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً). فقد خلق الله الناس مختلفين، (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم). وقد حوّل القدماء هذا الخلاف إلى مبحث علمي في "علم الخلافيات". ولم تشهد حضارة تعددية فكرية ومذهبية كما شهدت الحضارة الإسلامية قبل أن يكتب ويليام جيمس: "عالم متعدد". والقرآن الكريم كله حوارات بين الأنبياء وأقوامهم، بين المؤمنين والكافرين والمشركين والمنافقين، بين المسلمين واليهود والنصارى. بل إنه لا يحسم أي طرف على حق في الحوار لترك المجال مفتوحاً، (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين). بل إن الله سبحانه وتعالى سأل إبليس عن السبب في رفضه السجود لآدم، واستجاب لطلبه أن ينظره إلى يوم الدين، ويعطيه الزمان. وسلّح بني آدم بالوحي كي يواجهوا إبليس. والحكم لله يوم القيامة فيما اختلف فيه البشر، وليس للبشر أنفسهم. وقد اختلف أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أمامه، فلم يعنفهم، ولم يأمر بقتل أي فريق منهم بل قال: "أصحابي كالنجوم فبأيِّهم اقتديتم اهتديتم". كما انتشرت المذاهب الفقهية الأربعة أو الخمسة أو الستة، وتعددت الفِرق الإسلامية إلى ثلاث وسبعين حسب الحديث المشهور وترك الأمر للآخرة. وتكاثرت المدارس الفلسفية بين عقلية وإشراقية. وتعددت العلوم بين أصول الدين وأصول الفقه وعلوم الحكمة والتصوف، والعلوم العقلية الخالصة، والعلوم العقلية النقلية والعلوم النقلية الخالصة. وتباينت المناهج بين التنزيل والتأويل، بين أهل الرأي وأهل الأثر، بين أهل العقل وأهل الذوق. وكان في المسجد متسع للجميع. وكان بلاط الخليفة منبراً للحوار بين الأديان والمذاهب والمِلل والنحل. صحيح أن بعض القنوات الفضائية المعروفة قد تقدم بعض البرامج الخليعة، وتبرز جمال مقدمات البرامج وفتيات الإعلانات مع العري والرقص والغناء حتى لإعلان المبيدات الحشرية. وصحيح أيضاً أن بعض البرامج الدينية والقنوات الخاصة بالدعوة تحولت هي أيضاً إلى تجارة وكسب. وأصبح بعض الدعاة أشبه برجال الأعمال. لهم زيهم الخاص، الجلاليب البيضاء، والذقون السوداء، والوجوه المليحة، والأصوات الساحرة، والمكافأة المالية السخية أشبه بالنجوم. ولكل جمهوره ومعجبوه. يرهبون ويرغبون، يخيفون ويطمعون. يتحدثون في الغيبيات وكأنهم شاهدوها. ويقيمون معارك في الشكليات ليكسبوها بأرخص الأثمان. ويدخلون في جدل العقائد، ويحكمون على أصحابها بالإيمان أو الكفر. لا يتحدثون عن حقوق الناس ومصالحهم العامة وهي أساس التشريع. ولا يدفعونهم إلى مقاومة المحتل الغاصب لأراضي المسلمين وثرواتهم. ولا يدافعون عن حريات الناس ضد القهر الداخلي. ولا يطالبون بإطلاق آلاف المعتقلين السياسيين من السجون والمعتقلات. ولا ينادون بإعادة توزيع الدخول لإذابة فوارق الطبقات بين الأغنياء والفقراء، وتحقيق العدالة الاجتماعية. ولا يحذرون الأمة من مخاطر التجزئة الطائفية والعرقية بل يؤججون الخلاف على أساس عقائدي قديم. ولا يحققون مصالحة تاريخية دفاعاً عن المصالح المشتركة ضد العدو المشترك، الاستعمار والصهيونية. ولا يساهمون في خطط التنمية، ويقترحون الاستثمار فيما ينفع الناس، وتحويل الدول إلى دول منتجة في الصناعة والزراعة. كره بعض الناس الخطاب الديني الذي لا يمس مصالحهم والذي يطير فوق الواقع ولا يدخل فيه. واتجهوا إلى العلمانية، لعلهم يجدون فيها ما يريدون من عقل وعلم وإنسانية وحقوق ومساواة وعدل وحرية وديمقراطية وتقدم. ويعادون الدين ورجاله. ويتبنون النموذج الغربي في القطيعة مع الماضي. ويبشرون بالنموذج الغربي كرد فعل على النموذج الإسلامي. وتقع الأمة في شقاق بين سلفيين وعلمانيين، أصوليين وعقلانيين، قدماء ومحدثين، محافظين وتقدميين. وتقع الحرب بين الإخوة الأعداء. وتسيل دماء الأبرياء. وتتحول العداوة بين الأمة والغزاة إلى عداوة بين الإخوة الأعداء. إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب شرعي على كل قادر وصاحب أهلية بشرط ألا يأتي بمنكر أعظم منه. ويتم ذلك بالحسنى (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْـحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) حتى يتقبل الناس الإصلاح ولا ينفرون من دعاته. ولا يكون ذلك بالقول وحده، بل بالفعل أيضاً، وإيجاد البديل، وإنشاء قنوات فضائية إسلامية أفضل، تتجاوز قنوات بعض الدعاة، وتهزم قنوات الخلاعة والعري. هذا هو النقد الخلاق، والحوار البناء، البحث عن نموذج إسلامي لقناة فضائية ترعى مصالح الناس. تقدم الفن الرفيع، والفكر المستنير، والتاريخ الحي. تحاور ولا تكفر، تبني ولا تهدم. لا يكفي مجرد الرفض لما هو موجود والفتوى بالقتل لأصحابه، بل لابد من إيجاد البديل حتى يختار الناس عن وعي وحكم حُر بين الضار والنافع، والقبيح والحسن، والهابط والعالي. ولعل صاحب الفتوى قادر بأمواله على ذلك، كما أن الآخرين قادرون بأموالهم على ما يفعلون. فعل في مقابل فعل، وليس كلام في مقابل فعل. والتحدي لصاحب الفتوى هو إبداع إعلام إسلامي يستهوي الناس ويقدم البديل لبعض ما هو قائم دينياً كان أم دنيوياً. لقد حفظ الناس برامج القرآن والتفسير والسيرة والفقه. وسمعوا أكثر من مرة سيرة الصحابة الأوائل. وتخيلوا هذا الماضي الزاهر والعصر الذهبي للحضارة الإسلامية. وحلموا بعودتها، وتأسفوا على ضياعها، واشتاقوا إليها. يريد الناس يقظة لا تخديراً، وواقعاً لا حلماً، وعودة إلى العالم الضائع لا اغتراباً فيه، ودوراً يقومون به ويأخذون زمام المبادرة، وليس عواطف وانفعالات وأشجاناً حتى ولو كانت نبيلة. وللإسفاف جمهوره الواسع للأسف من المتدينين وغير المتدينين، من الإسلاميين والعلمانيين، من المحافظين والتقدميين. ويرتاد الفنادق الكبرى وملاهي الدرجة الأولى الأغنياء وليس جماهير الشعب الفقراء الذين لا يملكون تلفزيوناً، ولا كهرباء، ولا مياهاً نقية، ولا صرفاً صحياً، ولا تعليماً، ولا ثقافة. ولولا القدرة المالية ووجود الجمهور لما قامت هذه القنوات وذاع صيتها. ومن السهل وجود الأطراف المتناقضة، الخلاعة والمحافظة، العري والحجاب، الدين والدنيا. ومن الصعب إيجاد المساحة المشتركة بينهما، مصالح الناس، ومطالب الجمهور العريض في الحياة الكريمة والحاجات الأساسية. فلا يقبل على الأطراف إلا المتطرفون.