عندما انهار الاتحاد السوفييي في عام 1991 فقدت وكالة الاستخبارات المركزية (سي أي إيه) أحد أشرس خصومها، بل خسرت الولايات المتحدة ألد أعدائها الاستراتيجيين بعد صراع امتد طيلة عقود من الزمن، فأصبحت الاستخبارات الأميركية مدعوة في ظل الواقع العالمي الجديد إلى إثبات جدواها لصناع القرار الأميركيين وإقناعهم بأن دورها مازال مهماً في عالم ما بعد الحرب الباردة. لكن الأخطاء الكثيرة التي ارتكبت على امتداد عقد التسعينيات جعلت وكالة الاستخبارات الأميركية موضع تساؤلات أضعفت من مصداقيتها وعرضتها لانتقادات شديدة، هذه المرحلة الحرجة والمفصلية في تاريخ جهاز الاستخبارات الأشهر في العالم، هي ما يسعى المؤلف "جون دايموند" إلى كشفه في كتابه الذي نعرضه اليوم وعنوانه "سي أي إيه وثقافة الفشل: الاستخبارات الأميركية من نهاية الحرب الباردة إلى غزو العراق". فبعد تأسيس وكالة الاستخبارات المركزية في عام 1947 بهدف التجسس على الاتحاد السوفييتي أمضت الوكالة أغلب وقتها تصارع عدواً لم تكن الولايات المتحدة قادرة على مواجهته وجهاً لوجه، وما أن اختفى فجأة الخطر السوفييتي حتى برزت تهديدات أخرى ليس أقلها الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل، بالإضافة إلى الصراعات الإثنية. وهكذا استبُدل الهدف الواضح الذي جسده المعسكر الشرقي بمجموعة من الأشباح وصفها "جيمس ولسي"، مدير الوكالة بين 1993 و1995 بأنها "غابة مليئة بالأفاعي". يوضح الكاتب، الذي يستعرض مرحلة مهمة من تاريخ "سي أي إيه" تلت الحرب الباردة، الصعوبات التي كان على الوكالة التعامل معها بعد انهيار الستار الحديدي وخروج الولايات المتحدة منتصرة في الصراع الأيديولوجي، حيث مرت بفترة عصيبة خفضت فيها موازنتها، وخضعت لمراقبة لصيقة من قبل الكونجرس، فضلاً عن الإخفاقات الاستخباراتية التي لاحقت الوكالة في تلك الفترة. هذه الإخفاقات والهفوات التي امتدت طليلة عقد من الزمن هي ما يسعى المؤلف إلى كشفه للقارئ معدداً في هذا السياق مجموعة من الأخطاء المعروفة في تاريخ الوكالة؛ مثل استهداف مصنع للأدوية في السودان بعدما اعتُقد أنه مخصص لإنتاج السلاح الكيماوي، بالإضافة إلى الخطأ الذي وتر العلاقات مع الصين عندما أطلقت أميركا قنبلة موجهة بالأقمار الاصطناعية على السفارة الصينية في بلغراد مستعملة خريطة قديمة للعاصمة الصربية. ولا تقف الأخطاء عند هذا الحد، بل امتدت إلى ما هو أسوأ مثل فشل الوكالة في كشف "ألدريك أميس" الضابط في الوكالة الذي عمل مع الاستخبارات السوفييتية "كي جي بي" لتسع سنوات متواصلة دون أن يكشف أمره، وعندما قبض عليه كان "أميس" قد حصل على 2.5 مليون دولار مقابل تزويده لعملائه الروس بوثائق مهمة تضم معلومات حول الأنشطة السرية لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. لكن المشكلة بالنسبة للكاتب أن هذه الأخطاء لا تمحى بسهولة من ذاكرة الوكالة، بل تبقى عالقة حتى بعد مرور وقت على ارتكابها، محدثة آثاراً تتجاوز في مداها اللحظة الراهنة لتمتد تداعياتها لسنوات قادمة. فالمحللون داخل "سي أي أيه"، كما يوضح ذلك المؤلف، عادة ما يلجؤون إلى وضع تقارير تبالغ في التركيز على بعض القضايا تفادياً للأخطاء السابقة وتجنباً لأي إحراج في المستقبل، ولعل المثال الواضح الذي يورده الكاتب في هذا السياق هو ما حصل في حرب الخليج الأولى عندما احتل صدام حسين الكويت، حيث بالغت وقتها "سي أي إيه" في تقييم قدرة النظام العراقي واعتقدت أنه لن يخرج من الكويت، لكن ما أن انخرطت القوات الأميركية في المعارك حتى تمكنت من إخراج القوات العراقية خلال بضعة أسابيع وبأقل الخسائر. فكان أن تعرضت الوكالة لانتقادات شديدة، وبخاصة من المشرعين الأميركيين الذين بنوا معارضتهم للحرب على أساس ما أطلعتهم عليه الوكالة. هذا الخطأ دفع "سي أي إيه" إلى محاولة التكفير عنه لاحقاً أثناء غزو العراق لتسقط في خطأ أكبر. فقد لعبت وكالة الاستخبارات المركزية دوراً بات معروفاً اليوم في التهيئة للحرب ضد العراق عام 2003 حيث وضعت التقارير بناء على معلومات استخباراتية خاطئة ادعت امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل. ويلخص الكاتب هذه المرحلة المهمة من تاريخ "سي أي إيه" قائلاً: "بقدر ما كانت أحداث التسعينيات ناتجة عن تآكل قدرات الاستخبارات، فهي كانت أيضاً نتيجة لها وهو ما ترتبت عليه سلسلة من الهفوات الحقيقية والهفوات المزعومة أدت إلى تراجع الثقة في الوكالة وإضعاف نفوذها. هذه الأخطاء غذت بعضها البعض وفاقمت المشاكل لتبرز في الأخير ثقافة من الفشل أقحمت الوكالة في دوامة من الأخطاء والانتقادات والتصحيح المبالغ فيه، والتسييس وصولاً إلى ضعف المعلومات المتاحة لصناع القرار الذين بدورهم فاقموا الوضع بإصدارهم لقرارات غير حكيمة". زهير الكساب ـــــــــــــــــــــــــــــــــ الكتاب: "سي أي إيه" وثقافة الفشل: الاستخبارات الأميركية من نهاية الحرب الباردة إلى غزو العراق المؤلف: جون دايموند الناشر: منشورات ستانفورد تاريخ النشر: 2008