كيف نفهم الأزمة المالية التي يواجهها العالم اليوم؟ وهل لها جذور سابقة في النظام المالي العالمي؟ لمثل هذين السؤالين وما تعلق بهما، خصص المؤلف نيل فيرجسون كتابه الذي نعرضه هنا. وكما يقول فإن العمر المهني القياسي لأي من المدراء العاملين في بنوك وأسواق "وول ستريت" المالية هو حوالي 25 عاماً، وهي مدة كافية لأن يشهد أي منهم إحدى كبريات الأزمات المالية المتكررة التي يمر بها النظام الرأسمالي من حين لآخر. ويمكن أن نقدر بدء الحياة المهنية لكبار المسؤولين والمدراء الماليين الحاليين بعام 1983 أي بعد مضي عقد كامل على ارتفاع أسعار النفط والذهب للمرة الأولى في تاريخ العالم المعاصر، مع العلم أن ذلك الارتفاع كان بمثابة مقبرة لأصحاب المال المنتمين إلى جيل سبعينيات القرن الماضي. وفي تلك المقبرة المالية السابقة ما يبرر دراسة البعد التاريخي للأزمة المالية الراهنة. فلا بد من إيجاد سياق تاريخي لما يحدث الآن. ورغم تأخر الوقت على تحذير أصحاب البيوت والمستثمرين في القطاع العقاري من خطر شراء البيوت الباهظة التكلفة، وتنبيه الممولين إلى مخاطر الاستغراق في الائتمانات الرخيصة، فإن إلقاء ضوء تاريخي على الأزمة سيكون مفيداً في فهم الدمار الذي حل بالبنوك والمؤسسات المالية. بل إن إدراك البعد التاريخي للأزمة يمكن أن يساعد الخبراء والمخططين الماليين على ما يجب فعله إزاء الأزمة الحالية. ومن أقوى عناصر هذه الدراسة -التي شابها بعض التسرع نوعاً ما في تقييم الأزمة الحالية، رغم أن مؤلفها أستاذ متخصص في مجال المال والاقتصاد بجامعة هارفارد- تحليل الكاتب لعملية انهيار القطاع العقاري والرهون المرتبطة به، باعتبار أن ذلك الانهيار كان بداية العاصفة المالية التي اكتسحت الأسواق لاحقاً. فعلى المستوى القريب تعود أسباب الأزمة كلها لانفجار الفقاعة العقارية، إلى جانب المضاربات والممارسات غير المسؤولة في أسواق المال. ومما يحسب إيجاباً لصالح الكتاب، مقارنته بين أداء الاقتصادين الأميركي والصيني، وتأثيرات هذا التفاوت على السوق المالية العالمية كلها. أما فيما يتصل بمتابعة التطور السريع للأزمة الحالية، من انفجار الفقاعة العقارية، إلى انهيار الائتمانات ثم أسواق المال، فلم يكتف المؤلف بتفسير ما حدث من وجهة نظره الفردية فحسب، وإنما أثار من الأسئلة ما يفتح الطريق أمام إجراء حوار عام بين المختصين والخبراء الماليين حول هذه الظواهر مجتمعة. وقد اقتطع تفسير هذه الأزمة وتحليلها جزءاً كبيراً من جهد الكاتب وتحليله، إلى حد غاب فيه نسبياً إلقاء الضوء على جذورها التاريخية. لكن رغم انشغاله بالآني، فقد عاد الكتاب إلى عصور سحيقة من التاريخ المالي للمجتمعات البشرية. ففي حضارة الإنكا مثلاً، لم يكن ينظر إلى الفضة والذهب باعتبارهما مالاً. أما في حضارة بلاد الرافدين القديمة، فقد استخدمت ألواح الأردواز على أنها أوراق ائتمانية لشراء البضائع وبيعها. وضمن هذا التأريخ للممارسة المالية في شتى المجتمعات البشرية، تابع المؤلف كيفية تحول الأرصفة التي كان يتم فيها تبادل العملات وتغييرها، إلى بنوك ومؤسسات مالية. وكان طبيعياً أن يستعرض المؤلف تاريخ العائلات الإيطالية التي أسهمت في هذا التحول في عصر النهضة الأوروبية، وكيف تمكنت هذه العائلات من السيطرة على الحياة السياسة والثقافية للمجتمع الإيطالي اعتماداً على نفوذها المالي. ومن خلال هذا الاستعراض التاريخي، يحدثنا الكاتب عن جذور نشأة أسواق السندات المالية، بردها إلى حاجة الدول للأموال التي تمكنها من خوض الحروب. ويتعرض الكاتب إلى التكرار المتواتر لوقوع المستثمرين الجشعين في الأزمات المالية في مختلف الأزمنة والعصور، ويتخذ لهذا الجشع المالي الاستثماري مثالاً بحديثه عن "جون لو" -الاقتصادي الأسكتلندي- الذي انتهت نظرياته الاقتصادية المغامرة إلى تدمير فرنسا في القرن الثامن عشر. وفي الوقت نفسه رد المؤلف جذور المخاطرة المالية إلى سكوتلندا عصر التنوير الأوروبي. وإلى ذلك فإن الاستنتاج النظري الذي توصل إليه الكاتب في إطار تحليله التاريخي للأزمة الراهنة هو الأكثر إثارة للاهتمام. فمن رأيه أن النظم المالية العالمية تتطور وفقاً لقوانين الانتخاب الطبيعي. ورغم تحذيره من المنظور الدارويني الذي يرى التطور باعتباره صيرورة مستمرة، فإنه يعتقد أن بروز النظم والممارسات المالية الجديدة، يفسره تغير البيئات التي تعمل فيها هذه النظم والممارسات. ومن رأيه أن تكوين الثروات وما تشهده من عمليات "انتخاب" ودمار ماليين، يعدان بين أهم السمات المميزة للاقتصادات والنظم المالية الحديثة. وبهذا يصل المؤلف إلى استنتاجين رئيسيين من دراسته هذه. أولهما أن تطور النظم المالية يعتمد على نشأتها وانقراضها. وثانيهما أن على الحكومات والدول أن تسمح بانقراض النظم والممارسات المالية العاجزة عن المواكبة، تطبيقاً لمبدأ "الانتخاب الطبيعي". واليوم فإن الملاحظ هو انشغال الحكومات في مختلف أنحاء العالم بإنقاذ كافة البنوك والأسواق المالية القائمة. إلا أن قانون الانتخاب الطبيعي سوف يرغمها على التخلي عن بعض المؤسسات الخاسرة والعاجزة لتواجه موتها التدريجي المحتوم. عبدالجبار عبدالله ---------- الكتاب: صعود الأموال: التاريخ المالي للعالم المؤلف: نيل فيرجسون الناشر: مطبعة بنجوين تاريخ النشر: 2008