منذ عام 1967، قامت إسرائيل، ولا زالت حتى اليوم تقوم بانتهاج سياسة التغيير الديموغرافي لمدينة القدس المحتلة، ضمن خطة تهدف إلى خلق واقع جديد عن طريق "تجميد" الوجود الفلسطيني في المدينة والسعي للقضاء عليه بصورة تدريجية باستبداله بأغلبية يهودية تجهد لتجذيرها في القدس. فقد اتبعت الحكومات الإسرائيلية في المدينة المقدسة سياسة التطويق الاستعماري (الاستيطاني) والسكاني والاقتصادي، بالتوازي مع محاولة إبادة أو تقليص الوجود العربي الفلسطيني بشتى الوسائل. وما تشهده القدس يؤكد خطورة وكارثية سياسة "التدمير الهادىء" للبيوت والأحياء والمواقع العربية في المدينة ومحيطها. فقد أكد مدير عام مؤسسة الحق أن أكثر من 27 الف منزل عربي في مدينة القدس مهدد بالهدم، فيما ذكرت دائرة شؤون المفاوضات في منظمة التحرير الفلسطينية أن وزارة الإسكان الإسرائيلية أصدرت قراراً ببناء 4486 وحدة سكنية استيطانية، 92% منها في منطقة القدس والباقي في أماكن مختلفة من الضفة الغربية، وذلك بعد مؤتمر أنابوليس. ونوهت الدائرة إلى خطورة الحفريات التي تقوم بها إسرائيل في باب المغاربة في القدس، حيث تحفر ثلاثة أنفاق تحت البلدة القديمة في سلوان. كما أثار إعلان إسرائيل عن تحضيرات لإجراء إحصاء سكاني في مدينة القدس الشرقية، قلق أهالي المدينة من وجود نيات سياسية، ليس أقلها تجريد عشرات الآلاف ممن يعيشون خارج حدود المدينة المقدسة من حقهم في الإقامة فيها. فقد دأبت إسرائيل على مصادرة بطاقات الهوية من كل مقدسي يثبت لها أنه يعيش خارج المدينة، أو حصل على جنسية أجنبية. وحسب إحصاءات متطابقة، فإن إسرائيل صادرت بطاقات الهوية من عشرة آلاف مواطن مقدسي بهذه الذريعة، حارمة إياهم من العودة إلى بيوتهم وممتلكاتهم فيها. وزاد من قلق أهالي المدينة عرض وزير "الدفاع" الإسرائيلي إيهود باراك في منتصف سبتمبر الماضي حلاً سياسياً يقوم على نقل بعض الأحياء المكتظة بالسكان في القدس إلى السلطة لإقامة الدولة الفلسطينية، خصوصاً بعد اعتراف عدد من المسؤولين الإسرائيليين علناً بأنهم أقاموا الجدار ليكون حدوداً سياسية للدولة العبرية مع الأراضي الفلسطينية. لقد أدركت إسرائيل بأن مدينة القدس هي عنوان القضية الفلسطينية. والمتأمل للمواقف السياسية والمخططات الاستعمارية (الاستيطانية) المتعلقة بالمدينة المقدسة، يتضح أمامه المشروع الصهيوني دون عناء. وهذه كلها بدأها "ثيودور هرتزل" مؤسس الحركة الصهيونية في المؤتمر الصهيوني الأول في بال بسويسرا عام 1897 حين قال: "إذا حصلنا يوماً على القدس، وكنت لا أزال حياً وقادراً على القيام بأي شيء، فسوف أزيل كل شيء ليس مقدساً لدى اليهود فيها وسوف أدمر الآثار التي مرت عليها القرون". لذا فإن ما تقوم به الحكومات الإسرائيلية في حقيقة الأمر هو "أسرلة القدس" لتشمل البعد السياسي والثقافي والاجتماعي، بالإضافة للبعد الديني، عبر خلق حقائق جديدة لرسم صورة إسرائيلية أحادية للمدينة ومقدساتها. وهي عملية تتسارع محمية بعملية سلام عبثية لم تقدم أي شيء للمدينة المقدسة. فبالرغم من فشل إسرائيل المتواصل في وقف الاحتجاجات الدولية بهذا الخصوص، ناهيك عن انتزاع اعتراف دولي لهذا الانتهاك الصارخ لكل المواثيق الدولية، إلا أنها لا تزال تواصل إقامة "القدس الكبرى" حيث لجأت في سبيل ذلك إلى أساليب استعمارية عنصرية متعددة في مقدمتها توسيع حدود بلدية المدينة على حساب الأراضي الفلسطينية الأخرى، واستكمال تهويدها بإقامة جدار الفصل العنصري حولها بعد إحاطتها بسياج من المستعمرات الاستيطانية بهدف خلخلة التوازن الديموغرافي لصالح الإسرائيليين وبخاصة بعد أن بينت الدراسات الحديثة حقيقة أن العرب المقدسيين أصبحوا يشكلون حوالي ثلث مجموع السكان في "القدس الموحدة"! وعلى صعيد سياسي متصل، فإن ما يزيد من خطورة وضع المدينة المقدسة يتجسد في الدعم غير المحدود الذي تلقاه إسرائيل من الولايات المتحدة متمثلاً في مشروع قرار للكونغرس يشترط الاعتراف بمدينة القدس "عاصمة موحدة غير مقسمة لإسرائيل" مقابل الاعتراف بالدولة الفلسطينية مستقبلاً. إضافة إلى المحاولات المحمومة والمتكررة لأنصار إسرائيل في الكونجرس لإنجاز نقل سفارة واشنطن إلى القدس لتكريسها عاصمة للدولة العبرية. ومع تكرار العمليات الفدائية في القدس، والتي بلغت ست عمليات منذ مطلع العام الحالي أدت لمقتل 13 إسرائيليًا، بدأت إسرائيل -متجاهلة الأسباب الحقيقية وراء حدوث هذه العمليات (الاحتلال، والجدار، و"الاستيطان"، والتهويد) التفكير في كيفية مواجهة مثل هذه العمليات سهلة التقليد والتي يكاد يكون من المستحيل منع وقوعها سلفاً. فالجرافة أو المركبة الخاصة هي سلاح في متناول اليد. وعلى سبيل المثال، يحلل "عوزي بنزيمان" في مقال بعنوان "تقسيم القدس"، أسباب هكذا عمليات بالقول: "إن إسرائيل والفلسطينيين يدخلون مرة أخرى إلى فترة حساسة، فالمفاوضات حول (اتفاق رف) اتضح أنها فاشلة، بالإضافة إلى انتخابات نوفمبر القادم في الولايات المتحدة، والانقسام الحاصل بين حركتي فتح وحماس بالنسبة لاستمرار ولاية رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بعد يناير 2009، وحتى انتخابات بلدية القدس، والحق في لفت أنظار الإعلام... كل ذلك من الممكن أن يضاعف من الحوافز لتنفيذ عمليات أخرى". وأشار في هذا السياق إلى أن "وزير الحرب" إيهود باراك، قد طالب "بإزالة العوائق القضائية التي تحول دون هدم بيوت منفذي العمليات في القدس". ويشير أيضاً إلى أنه يجدر تذكر ما قاله رئيس الحكومة المستقيل إيهود أولمرت، بعد إحدى عمليات الدهس السابقة، في يوليو الماضي، حيث قال: "من يعتقد أن السيطرة الإسرائيلية على كل أحياء القدس سوف تستمر، عليه أن يستعد لجرافات أخرى". من الثابت أنه، منذ عام 1967، يتشكل واقع صهيوني جديد في القدس ينذر بتغيير كل شيء فيها. فالمشروع الإسرائيلي يرمي إلى محاصرة العرب الفلسطينيين -مسلمين كانوا أم مسيحيين- وتضييق الخناق عليهم تمهيداً لطردهم -أو في "أسوأ الأحوال" إسرائيلياً- حصرهم في أحياء معينة داخل القدس القديمة وبعض القدس الشرقية خارج السور، مع توسيع حدود القدس الغربية بصورة قسرية حتى تميع الهوية المقدسية في مشروع ما يسمى "القدس الكبرى". إذن، تتلخص "الحقيقة" لدى إسرائيل في أن "القدس الموحدة ستبقى العاصمة الأبدية للدولة" الصهيونية، لذا تحاول فرض الأمر الواقع على الأرض وإنهاء قضية القدس في هذه المرحلة الخطيرة رغم أنها أحد أخطر وأهم قضايا الخلاف في عملية السلام.