استضافت جامعة نيويورك في أبوظبي قبل أيّام الروائي اللبناني إلياس خوري، المحاضر في الدراسات الشرق أوسطية في الجامعة (في نيويورك)، وتحدث عن تجربته الروائية، وأشار أكثر من مرة إلى دور "مركز الأبحاث" الفلسطيني، في بيروت. وكانت أولى هذه المرات في إشارته إلى بداية فكرة روايته الملحمية المشهورة "باب الشمس"، التي تحولت إلى فيلم طويل من جزءين، وترجمت إلى لغات عدة، وبيع منها في فرنسا وحدها 18 ألف نسخة خلال ستة أشهر (في حين احتاج الأمر 10 سنوات لبيع 20 ألف نسخة من الطبعة العربية)، فقد قال خوري إنّه طرح الفكرة للمرة الأولى عندما كان في سن الثالثة والعشرين، باحثاً مبتدئاً في "مركز الأبحاث"، حيث اقترح جمع قصص النكبة، وعمليات التهجير من فلسطين عام 1948 وصياغتها في قالب روائي، لكن الفكرة لم تتحقق حينها، إلى أن تم ذلك على يد خوري نفسه بجهد فردي بعد سنوات. ثم أشار خوري ثانية إلى المركز ذاته في سياق حديثه عن الشاعر الفلسطيني الراحل، محمود درويش، وفترة زمالتهما في المركز. إنّ حديث خوري يلفت النظر للدور العربي الريادي الذي كانت مراكز الأبحاث ودور النشر الفلسطينية تقوم بها في الماضي. وأذكر على سبيل المثال أن برهان غليون، الأستاذ في جامعة السوربون الفرنسية،، ذكر لي مرة على هامش أحد المؤتمرات تجربته في المساعدة في إطلاق المجلة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية، "فلسطين الثورة" التي استمرت في الصدور حتى وصلت العدد 996، وقد توقفت عقب "اتفاقات أوسلو"، وكانت تتضمن نوعاً من التنظير الفكري والسياسي للحركة الوطنية الفلسطينية. وقبل شهرين كنت أتحدث مع الباحث الأردني هاني الحوراني، مدير ومؤسس "مركز الأردن الجديد"، وأخبرني عن بداياته البحثية والكتابية في دورية "شؤون فلسطينية"، التي كانت تصدر عن "مركز الأبحاث"، أيضاً، وكانت تستقطب كبار الكُتاب العرب حيث يكتبون في قضايا إنسانية وعربية وفلسطينية مختلفة. ولعل اعتداء إسرائيل على المركز ثلاث مرات مطلع السبعينيات، واحتلاله ومصادرة موجوداته عام 1982 وتفجيره عام 1983 دليل على دور المركز الحيوي. وفي مايو الماضي اشتركت في تنسيق ندوة علمية حول الذكرى الستين للنكبة الفلسطينية، ففوجئت بأنّه عندما خاطبنا كبار الباحثين الفلسطينيين والعرب من جامعات مثل "كنجز كوليج" في لندن، وأكسفورد، أن من يقودون العمل البحثي في بعض الإدارات هناك هم أيضاً ممن مروا بمراكز أبحاث ودراسات فلسطينية. وعند ذكر مركز "الأبحاث"، لا يمكن إلا أن نذكر مدير المركز بين عامي 1966 و1977، د. أنيس صايغ، الذي كان قبل قدومه للمركز محاضراً في جامعة كيمبردج. وما أريد استخلاصه من هذه التفاصيل، يتضح في : أنّ مراكز الأبحاث الفلسطينية، ومطبوعات "الثورة" الفلسطينية استقطبت في وقت من الأوقات أفضل العقول العربية، وبعضها جاءها من أهم الجامعات العالمية والعربية. و أنّ تلك المؤسسات لم تكن فصائلية، فمثلًا كان د. أنيس صايغ ولا يزال على طرف نقيض فكريّاً وسياسيّاً مع ياسر عرفات وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية. و أنّ تلك المؤسسات كانت مدرسة عربية خرّجت باحثين وأكاديميين هم الآن في الصف الأول عالمياً. وأنّ كل ذلك الإنجاز والبناء قد تراجع إلى حد التلاشي، وأنّ جزءاً من تردي الواقع الفلسطيني يعود تفسيره إلى الإقصاء الكبير للعقول والكفاءات والطاقات الفلسطينية. إنّ الخلاف السياسي الفلسطيني الداخلي، وأزمة الشرعية التي تعانيها منظمة التحرير الفلسطينية، جراء عدم القدرة على إعادة تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني، لا يمنعان من تفعيل مؤسسات المنظمة، التي هي مؤسسات الشعب الفلسطيني الوطنية، وفي مقدمة هذه المؤسسات مراكز الأبحاث ومؤسسات الإعلام والتعليم والمؤسسات المهنية، والتفعيل بحد ذاته يحل جزءاً كبيراً من مشكلة الشرعية؛ فالفعالية بوابة للشرعية في كثير من الأحوال. يطلق مروان كنفاني، الذي عمل قريباً من ياسر عرفات سنوات طويلة، على الحقب السابقة في القضية الفلسطينية، صفة "سنوات الأمل"، وقد كتب كتاباً طويلًا يحتوي بعض مذكراته تحت هذا العنوان. ويبدو أننا الآن نعيش "سنوات الضياع" الفلسطينية.