يشكل التلفزيون -في كل بقعة من بقاع العالم- الرابط القوي بين المجتمع وحكومته بما في ذلك مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني. وكذلك يربط بين المجتمع وتاريخه ويعايش حاضره ويتنبأ بمستقبله. وإذا ما أخذنا هذه العلاقة أو فلسفة العلاقة لأصل وجود التلفزيون في الاعتبار، فإننا نواجه أنفسنا بمجموعة من الحقائق التي لابد من مناقشتها -بكل وضوح وحرية- طالما أن التلفزيون ملك للمجتمع؛ ولا يتشكل ضمن عقلية وأطروحات العاملين فيه، والذين قد تلعب الظروف الاجتماعية والسياسية دوراً مهماً في تأهيلهم لذلك العمل، وإن كان البعض منهم لا يمتلك خاصية المهنية المؤهِّلة لهذا النوع من العمل. ومن هذه الحقائق: - أن الانفتاح الفضائي وظهور الفضائيات المتخصصة اعتباراً من عام 1990 قد قلص من دور التلفزيون الحكومي الرسمي، وحجّم من انتشاره وأظهر ضعفه كونه مؤسسة حكومية تتبع روتيناً حكومياً لا يفرق بين التلفزيون وبقية الأجهزة البيروقراطية. - أن الاتجاه العالمي ينحو نحو التخصص في البث، وهذا يحرم التلفزيون الحكومي (الشامل) من تلك الخاصية، ما يطرح الحاجة إلى تبديل (النهوج) القائمة حالياً لكي يقوم هذا التلفزيون بدوره بفعالية. - أن التلفزيون مؤسسة قائمة على المهنية وليس جمعية خيرية، يصل إليها الأقرباء، مما يشكل عبئاً بشرياً ومالياً عليها. - أن الانفجار المعلوماتي وتطور التكنولوجيا، قد حتّما تبديل قوالب وقواعد إعداد وتقديم البرامج وتحديث رؤى المعدِّين. وبعض التلفزيونات الخليجية بها معدون منذ أكثر من ثلاثين عاماً لم يطلعوا على نماذج البث الأجنبي، ولا تقنيات الإعداد في الدول المتقدمة. - أن استهلاك ساعات البث لمواد التلفزيون يلجئ التلفزيونات الرسمية إلى زيادة "تغريب" التلفزيون ومشاهديه. أي أن طغيان المادة الوافدة -مهما كانت جهتها- نظراً لقلة المعدين المحليين، وكذلك فإن "استنفاد" ميزانيات التلفزيون لهذا الغرض، يجعل التلفزيون غريباً عن مشاهديه، ناهيك عن المحاذير الاجتماعية التي تحد من إقبال الفتيات على العمل في التلفزيون وعدم الاهتمام بتدريب الكوادر للعمل التلفزيوني. لذلك نلاحظ أن التلفزيونات الرسمية لا تضع خطط تدريب، بل نشهد تسرب الكفاءات منها لأسباب -أحياناً- غير منطقية. - تهميش الطاقات المبدعة والناجحة وإقصاؤها لاعتبارات شتى، وهذا ما جعل العديد من تلفزيونات منطقة الخليج امتداداً لروح "الفزعة" التي لا تفيد المجتمع الديمقراطي، أو المجتمع الذي يطبق مبدأ تكافؤ الفرص. - خلق حالة انفصام بين التلفزيون والمجتمع وذلك لطغيان المادة الوافدة وإهمال التراث وفكر المجتمع وقضاياه. ذلك أن جل المعدين في تلفزيونات المنطقة لا يلتفتون إلى التراث، وقوْلبت معظم تلفزيونات المنطقة الذاكرة التراثية والفكرية لسكان وشعوب منطقة الخليج في برامج "ركن البادية" الذي لا توفر له الإمكانيات اللازمة التي توفر للمهرجانات والنقل المباشر؛ أو برنامج المسابقات الموسمية التي تعهد إلى معدين يفتقدون خاصية التواصل مع الجمهور، وكان الأجدى أن يعهد بتلك البرامج إلى باحثين شعبيين متخصصين لكي يعبّر التلفزيون عن ذاكرة المجتمع، فالذاكرة البدوية -على سبيل المثال- فكر وحضارة وسلوك وإبداع، تماماً كما هي الذاكرة البحرية لسكان الخليج. - إهمال الأرشيف وخلو البرامج من تلك المشاهد القديمة والمقابلات النادرة والتي تمثل الذاكرة الحية للمجتمع. والإعلاميون يعتبرون إتلاف أرشيف التلفزيون -كما هو أرشيف الجريدة- فعل جريمة مثل قتل ذاكرة المجتمع. وحسناً فعل المسؤولون الكويتيون باستعادة أرشيف تلفزيونهم، وها هم يبثون نفائس اللقطات والأغاني واللقاءات من ذاك الأرشيف. - ضياع هوية التلفزيون الحكومي! وهناك محطات لو أزالت شعارها لما عُرفت!! وذلك بسبب طغيان المادة الوافدة والوجوه الوافدة وتغييب العنصر المحلي، والاحتفاء بالوجوه والأجساد المغرية، ولجوء بعض قصار النظر إلى "إقصاء" المعد الجيد ليخلو المكان لمساحات الترفيه الساذجة والدمى التي يحركها المخرجون والمعدون دونما إقناع. كما يساهم في ضياع الهوية أيضاً، عدم وجود سياسات واضحة وسلوكيات تنفيذية من أجل تحديد دور التلفزيون في المجتمع. - غياب مبدأ الثواب والعقاب في بعض التلفزيونات الرسمية. ذلك أن الموظف (المواطن والوافد) لا "يُفنَّش" سواء عمل أم لم يعمل، على رغم أن وظائفهم تحتم ذلك. فأين ديوان شؤون الموظفين من ذلك؟ - دأبُ المحطات على الظهور "القشوري" في New Look كل عام أو عامين دون الغوص في فلسفة البث وأهدافه، وهروب مسؤولي التلفزيون عن الأطروحات الجادة التي تسهم في تحقيق تطور لاتجاهات وآليات البث. - تلاقي المصالح والأهداف، ونشوء علاقات "ودية" بين بعض مسؤولي التلفزيون في البلاد العربية. وغياب روح التنافس الشريف وشيوع حالة اليأس من الأوضاع وطغيان النزعة الاستهلاكية ومقولة "مشي حالك" وضعف الانتماء للمؤسسة -طالما أن الراتب سيأتي آخر الشهر- وهذا يفتح الباب لكل من ليس له عمل أن يكون معداً أو مقدماً تلفزيونيا ولربما خبيراً بعد أن يتجاوز الخمسين. والإشكالية في دول الخليج خاصة أن المواطن عندما يبلغ الخامسة والأربعين يحيلونه على التقاعد الإجباري؛ ولربما قبل ذلك. وإزاء كل تلك الحقائق المُرّة، والتي لايناقشها المسؤولون بصراحة وواقعية، كان لابد لنا من طرق ناقوس التنبيه لحقيقة وجود التلفزيونات الرسمية في البلاد العربية واستنفاد الميزانيات الضخمة دون طائل. صحيح أن هنالك من يسعى إلى الدعاية السياسية من الأنظمة العربية ويستخدم التلفزيون بصورة غير مهنية، لكن دول الخليج التي تعيش حاضراً يختلف عن بعض الدول العربية -التي لم يتطور أسلوبها التلفزيوني منذ أكثر من أربعين عاماً- كان لابد لها من إعادة النظر في وجود التلفزيون الرسمي، مع كل هذه الفضائيات المتخصصة! لا أعتقد أن تلفزيوناً رسمياً يمكن أن ينافس القنوات الخاصة في نشر الأخبار والأفلام! لذلك فإنه من الواجب على التلفزيونات الرسمية البحث عن سبل جديدة لوضع اسمها على خريطة البث التلفزيوني. فالمشاهد لا يتابع المحطة التي تتثاءب عند الثامنة مساءً!! والخيارات كثيرة ومتاحة. إن التلفزيون مؤسسة إبداعية وما لم تمتلك ويمتلك أصحابها تلك الخاصية فإنها لن تؤدي عملها في عالم اليوم المثير والمدهش والمتطور.