يرتبط مصير لبنان، في أحد أهم جوانبه بإيران وسياستها الإقليمية الطموحة. وهذا ارتباط لا ينكره أحد في لبنان أو إيران أو غيرهما. حلفاء إيران اللبنانيون صاروا أكثر وضوحاً في هذا المجال. السيد حسن نصر الله زعيم "حزب الله" أفصح عن افتخاره بالانتساب إلى حزب "ولاية الفقيه"، وبالتالي -ضمنياً- إلى الدولة الإيرانية التي تقوم على هذا المبدأ. أما الفريق الآخر في لبنان، فمن الطبيعي أن أطرافه لا يفوّتون فرصة للإعراب عن قلق أو خوف أو استياء أو غضب لأن دعم إيران العسكري لـ"حزب الله" أحدث خللاً شديداً في المعادلة الداخلية. وإذا كان الإيرانيون يتوخون الحذر في خطابهم السياسي العلني بشأن لبنان، ويتجنبون الإفصاح عن دعمهم غير المحدود لـ"حزب الله" وحلفائه، فلا يخلو هذا الخطاب من إشارات ذات مغزى تحمل في طياتها ربطاً لا يخفى بين اعتراف الغرب بدور محوري لدولتهم في المنطقة وحل الأزمات الإقليمية الساخنة، وخصوصاً في العراق ولبنان. وكثيرة هي المداخل التي يمكن الولوج منها سعياً إلى فهم أبعاد هذا الارتباط بين دور إيران الإقليمي، وفي القلب منه برنامجها النووي، ومصير لبنان. غير أن المدخل الأكثر أهمية يقع في منطقة التحديد الدقيق لذلك الدور الذي يستهدف تغيير أنماط التفاعلات والمعادلات في المنطقة واستغلال ضعف وجمود النظام الإقليمي العربي بأفق إقامة منظومة إقليمية جديدة يكون لإيران فيها الدور المحوري. وإيران بهذا المعنى تعتبر "دولة إقليمية مرجِعة" تريد تغيير نظام إقليمي قائم، مثلما كانت مصر الناصرية بين منتصف الخمسينيات و1967، وكما حاول العراق الصَّدامي بفجاجة وفظاظة نادرتين منذ عزل مصر عقب كامب ديفيد وحتى فرض الحصار على نظام بغداد عقب غزو الكويت، أي بين 1979 و1990. والأسلوب الرئيسي الذي تعتمد عليه إيران الآن هو جمع أوراق إقليمية بقدر المستطاع، واختراق الأزمات العربية، وتدعيم القوى الحليفة وتأهيلها، وبالتالي زيادة أرصدتها في أي مساومة سياسية أو مواجهة عسكرية. لكن لبنان، بالنسبة لإيران المُراجِعة جامعة الأوراق هذه، ليس مجرد ورقة إقليمية. فالمصالح الإيرانية في لبنان أساسية، ويمكن أن نميز فيها بين نوعين: مصالح ترتبط بطابع الدولة الإيرانية، كدولة دينية رسالية، وأخرى تتصل بدورها الإقليمي وطموحها لأن يكون هذا الدور مركزياً بما يجعلها القوة الأكبر في المنطقة. وإذا كان الشيعة في قلب النوع الأول من المصالح الإيرانية في لبنان باعتبار أن إيران هي الدولة الشيعية الوحيدة الآن، فإن "حزب الله" يقع في قلب النوع الثاني من هذه المصالح بوصفه رافعة أساسية لدور طهران في المنطقة، خصوصاً بعد أن أصبح قوة يُحسب حسابها ويُخشى بأسها إقليمياً، وليس فقط داخلياً في لبنان. غير أنه لما كان "حزب الله" يتبنى "ولاية الفقيه"، فقد تداخل دوره في مشروع إيران الإقليمي مع موقعه بالنسبة للدولة ذات الطابع الرسالي. والمصالح الإيرانية في لبنان، والتي تمر عبر "حزب الله" بالأساس، ليست محصورة على هذا النحو في مجرد الاحتفاظ بأداة ردع ضد أي هجوم محتمل عليها. كما أن إرباك المعادلات الداخلية في لبنان ليس هدفاً لإيران في حد ذاته، ولا يرتبط بمصالحها في هذا البلد بالضرورة، وإنما قد يكون وسيلة من الوسائل التي قد تفيد في تحقيق أهداف تتعلق بدورها الإقليمي. فإذا كان هذا الإرباك ضرورياً بالنسبة لـ"حزب الله" وموقعه في لبنان، فهو يدخل ضمن المصالح الإيرانية. ويعنى ذلك أنه لا يمثل مصلحة دائمة. ويثير هذا سؤالاً عن السياق الذي تكون لإيران فيه مصلحة في إرباك الوضع اللبناني، وذلك الذي يقتضي تدفقاً سلساً للتفاعلات الداخلية. فمثلاً كيف تتعامل إيران مع هذا الوضع الداخلي في لبنان إذا فاز تحالف "حزب الله" (فريق 8 آذار) بالأغلبية في الانتخابات النيابية القادمة ربيع 2009، وصار بإمكانه تشكيل الحكومة المقبلة. يثير هذا السؤال سؤالاً آخر حول كيفية اتخاذ القرار الإيراني بشأن الوضع الداخلي اللبناني، وهل يعتمد بشكل كامل على تقدير "حزب الله" لهذا الوضع، أم يستند إلى هذا التقدير بدرجة ما وفقاً للظروف، وما هي العوامل التي تحدد مساحة أو حجم دور كل منهما (الدولة والحزب) في هذا المجال؟ الإجابة على هذا السؤال، وغيره مما يتصل بتفاصيل العلاقة بين الدولة الإيرانية و"حزب الله"، ضرورية. ولا يقلل من أهميتها كون هذا الحزب جزءاً من المنظومة التي تديرها تلك الدولة، بل في قلب هذه المنظومة. وهنا الاختلاف بين علاقة "حزب الله" مع كل من إيران وسوريا. فهي علاقة عضوية عقائدية واستراتيجية في آن معاً بالنسبة لإيران، وعلاقة تحالف سياسي شبه استراتيجي بالنسبة لسوريا. ومع ذلك، ورغم أن موقع "حزب الله" بالنسبة إلى العلاقات الإيرانية اللبنانية ودور طهران الإقليمي، يبدو مركزياً وقوياً وراسخاً وغير مزعزع، تظل هناك أسئلة مهمة ربما يصعب استشراف مستقبل هذا الدور وتلك العلاقات دون الاهتمام بها. ويمكن طرح ثلاثة أسئلة تتعلق بجوانب رئيسية في هذا المجال. السؤال الأول هو عن مدى عمق وتجذر الولاء لإيران داخل "حزب الله"، وبالتالي كيفية تقييم ما يتردد من وقت لآخر عن جناح أكثر ارتباطاً بالدولة الأم، وآخر أقل ولاءً أو غير موال لها. وعلى سبيل المثال، هل يمكن الحديث عن خلافات سياسية في هذا المجال، معزولة أو بمنأى عن الارتباكات التي حدثت فى بعض المناسبات بسبب قضية المرجعية، خصوصاً إبان رحيل السيد محمد رضا كابايكانى في ديسمبر 1993، وكذلك حين كان أحد الخلافات بين السيد محمد حسين فضل الله ومراجع إيرانية يتسرب إلى العلن؟ وإذا كانت مشكلة المرجعية هي أكثر ما آثار جدلاً جدياً حول وجود خلافات داخل "حزب الله" تتصل في أحد جوانبها بالعلاقة مع إيران، فهل مازال لمثل هذه الخلافات أثر باق بعد حسم مسألة المرجعية؟ أما السؤال الثاني فهو عما إذا كان دور "حزب الله" اللبناني في المنظومة العقائدية والاستراتيجية الإيرانية يتجاوز لبنان إلى بلاد أخرى في منطقة الشرق الأوسط؟ وهل هذا الدور -إذا وجد- ثانوي أم أكثر من ذلك؟ وما هو المبلغ الذي بلغه، وبالتالي تأثيره المحتمل على موقع لبنان بالنسبة لإيران في حالة نجاحها في استثمار الفشل الأميركي في المنطقة والفراغ الناجم عن غياب مشروع عربي، لتوسيع نفوذها وربما دفع الولايات المتحدة إلى مراجعة سياستها تجاهها؟ لهذا السؤال دوافعه الواقعية التي تبعده عن مجال الافتراض ودائرة التكهن ومساحات التخمين. ومن أبرز هذه الدوافع الدور الذي قام به عماد مغنية في المنطقة عموماً، وفي الخليج العربي خصوصاً. وإذا كانت بعض محطات هذا الدور صارت معروفة لنا، من خطف الطائرة الجابرية الكويتية إلى عملية الخُبر في السعودية... فما خفي منه مازال أكبر حجماً وربما أعظم دلالة. فلم يكن مغنية، بكل ما أثير حوله من جدل، مجرد قائد لقوات "حزب الله"، فقد كان شخصية محورية في استراتيجية إيران ومشروعها، بمقدار ما كان قيادياً عسكرياً من طراز نادر، بغض النظر عن تقييم نشاطاته خارج لبنان وتصنيفها. يبقى، بعد ذلك، السؤال الثالث وليس الأخير بالتأكيد بين الأسئلة التي يتعين أن تكون على جدول الأعمال العربي في الوقت الراهن. وينصرف هذا السؤال إلى علاقة "حزب الله" اللبناني بأحزاب الله "القطرية" الأخرى في بعض البلاد التي توجد فيها طوائف شيعية. ويرتبط بذلك ما أثير مؤخراً عن دعم تدريبي قدمه "حزب الله" اللبناني لما يوصف بأنه نظيره في العراق. فإذا صح ذلك، فهل هو امتداد للدور الذي قام به عماد مغنية في بلاد خليجية أخرى، وهل يعنى ذلك أن لـ"حزب الله" اللبناني مهمات محددة يقوم بها لدعم أحزاب الله الأخرى ضمن موقعه المركزي في المنظومة الإيرانية، وهل تفرض هذه المهمات أن يبقى على حالته الراهنة دون أي تغيير في وضعه قد يقتضيه تحويل الهدنة السياسية التي أتاحها اتفاق الدوحة إلى حل سياسي حقيقي؟ وكيف يمكنه التوفيق بين دوره هذا تجاه أحزاب الله الأخرى وضرورات التوافق على استراتيجية لبنانية للدفاع الوطني في إطار الحوار الذي دعا إليه الرئيس ميشال سليمان وبدأ أعماله في 16 سبتمبر الماضي؟