الظاهرة الأبرز في وقتنا الحاضر في عالمنا العربي والإسلامي أننا لا نعرف حتى الآن كيف ندير اختلافاتنا الدينية والمذهبية والفكرية ولهذا السبب برزت لدينا الكثير من الإشكالات المعقدة التي ظهرت ونمت في مجتمعاتنا وأصبح لدينا أيضاً الكثير من المرارات التي تراكمت نتيجة صمت المعتدلين أو اكتفائهم بالمراقبة وموقف المتفرج من جهة وبسبب مواقف بعض الجماعات المتشددة والحركات المتطرفة من جهة ثانية. وعندما ناقشت في مقال الأسبوع الماضي، الوضع المتأزم بسبب نشاط الجماعات والحركات ذات التوجهات الدينية المتشددة في العالم العربي والإسلامي ومدى تأثيرها على المجتمع في مقابل التراجع الظاهر للمؤسسات الدينية الرسمية، لم يكن هدفي تخويف الناس وإثارة الرعب فيهم بقدر ما كنت أقصد لفت الانتباه إلى خطورة تلك الجماعات وآثارها السلبية العميقة على المدى البعيد، خاصة وأن لدينا الكثير من الأمثلة لمدى تقليل الشعوب من خطر هذه الجماعات التي تعمل كالسرطان في الجسم؛ فلو انتشرت يكون من الصعوبة علاجها إن لم يكن مستحيلاً. الخبرة التاريخية على المدى البعيد تقول بأن لدينا الكثير من الأمثلة للتعامل مع هذه الحركات والجماعات، وتؤكد أن هناك خوفاً حقيقياً من سيطرة الجماعات على المجتمع وهو خوف لم يأتِ من فراغ فقد انتشرت هذه الجماعات حتى أصبح من ينتقدها يواجه المجتمع بشرائحه المختلفة وانتشرت مقولة "حسبي الله" لكل من يحاول إبراز سلبياتهم، وسمعناها كثيراً. المشكلة ليست في الاختلاف نفسه بقدر ما هي في طريقة إدارة الخلاف من قبل البعض منهم، خاصة المؤثرين منهم مع من يختلفون معهم فمن السهل أن تجد من يحكم عليك بأحكام تقضي بإنهاء حياتك أو هدر دمك أو على أحسن الأحوال تخرجك من عباءة الدين وتخونك بعد أن يتحول الخلاف إلى شخصي أو مصلحة خاصة دون وضع حساب للتوقيت أو تأثيره على الدولة. التأثيرات السلبية للاختلاف مع الجماعات تفوق أحياناً القدرة على احتوائها وهي تفرز إشكاليات وتناقضات قد لا تكون ظاهرة في الوقت الحالي وإذا كان خطر هذه الجماعات وآراؤها وأفكارها غير معروفة وغير واضحة لدى شريحة من السكان في مجتمعات الخليج تحديداً، باعتبار أن معظم دول هذه المنطقة لم تتعرض، والحمد لله، لأخطار هذه الجماعات وتشددها بالشكل الذي واجهته دول عربية وإسلامية عديدة، فإن ما لاحظته في مجتمعات أخرى مثل العراق وفلسطين ولبنان يدفعنا إلى عدم التهوين من خطرها والتعامل معها بسذاجة بل إن التهوين من خطرها أو تأجيله هو مشكلة في حد ذاته. لقد تزامنت مع مقالي الأسبوع الماضي تدخلات لبعض رجال الدين، سنة وشيعة، يوحي موضوعها في ظاهره بأنه في منأى عن خلخلة المجتمع لكنه في حقيقته يهدد استقراره الاجتماعي ويتعدى الاختلاف حول رأي ديني أو فقهي بل إنه يضيف مشكلة فوق المشكلات الموجودة أصلاً والخوف أن يؤدي إلى ما يعرف بـ"الفتنة الكبرى" وهو دليل آخر على امتداد وتشعبات هذه الجماعات بطائفتيها، ومهما اعتقد البعض بأن تدخلات هذه الجماعات بعيدة عن خلخلة المجتمع فإن الأمر ليس كذلك فجماعات الإرهاب السياسي هي نفسها بدأت كجماعات دينية سواء في الدول الأوروبية أو الدول الإسلامية، وعلى هذا لا ينبغي أن يترك الأمر للصدفة وبعدها تكون المشكلة أكثر تعقيداً وعمقاً مما كنا نظن. الاختلاف عندنا، عرب ومسلمون، بما يشكله من تعدد وتنوع نادراً ما يتم توظيفه أو إدارته لمصلحة الدولة والوطن أو حتى تكييفه لخدمة الشعوب بل سرعان ما كان يتحول إلى خلاف وهذا الخلاف هو نقطة التناقض حيث تبدأ معه مرحلة الصدام باستخدام العنف اللفظي والاتهامات إلى أن تكتمل دورة التحول للعنف وبالتالي لا تترك لدينا فرصة استخدام وسائل التصالح والتوفيق، ولم يكن بيان الشيخ يوسف القرضاوي والردود التي أتبعها الشيعة عليه سوى واحد من تلك المواقف. لقد عانت الدول العربية والإسلامية كثيراً من مواقف الجماعات والحركات الدينية التي تحولت في كثير من الأحيان إلى أذرع سياسية لا تخدم السياسات الوطنية للدول وحان الوقت للتنبه إلى هذه المشكلة ودراستها والعمل على احتوائها قبل الخروج عن السيطرة.