إن أسوأ ما يمكن أن يصاب به أي مجتمع، أن يلعب علماء الدين فيه دوراً سياسياً، فيسيئون إلى الدين ولا يحسنون السياسة، وهذا ما ينطبق على المشهد العام العربي، حيث يتسنم دعاة ومشايخ منابر فضائية ودينية، يتلاعبون بعواطف الجماهير الدينية، ويستغلون حالة الإحباط والظروف الاقتصادية الصعبة، لشحن الجماهير ضد أنظمتها الحاكمة، بالقيام بالمظاهرات العدائية والمسيرات المخربة والاعتصامات الكيدية. كما يوظفون منابر بيوت الله، لتحريض الشباب للذهاب للجهاد في مناطق التوتر، ليصبحوا قنابل بشرية تنفجر في ضحايا أبرياء في العراق والجزائر وأفغانستان واليمن، لكن هؤلاء المحرضين يجلسون هنا متنعمين ولا يذهبون للجهاد ولا يرسلون أبناءهم بل يجزعون ويستنجدون بالسلطة لمنع أولادهم من الذهاب للقتال. فإذا قيل لهم: أنتم تدعون للجهاد، فلماذا لا تذهبون؟ يجيبون: هل تريد أن يُقتل "أئمة" الإسلام؟! "الإخوان المسلون" ومنذ قيام الثورة الإسلامية في إيران وهم على علاقة حميمة بها، وعندما قامت الثورة، ذهب وفد من "الإخوان" وقدموا التهنئة، وأصدروا بياناً قالوا فيه عن الإمام "الخميني" إنه "فخر الإسلام والمسلمين"، وكان المرشد "خامنئي" قد ترجم بعض مؤلفات "سيد قطب" قبل الثورة، وزار الأستاذ "فتحي يكن" إيران مرات عدة وألقى خطباً في تأييدها ولذلك كان من الطبيعي أن يقف مع "حزب الله" مؤخراً ضد الحكومة. ولم يخف "الإخوان" يوماً تأييدهم ومؤازرتهم لإيران في كافة مواقفها وسياساتها، سواء في تملك "النووي" أو في مواجهتها لأميركا وأوروبا أو في دعمهم لـ"حزب الله" ودفاعهم عنه. لقد بلغ ولاؤهم السياسي لإيران أن مرشدهم مهدي عاكف، دافع بكل قوة عن الخط الإيراني الأصولي لدرجة الاعتقاد أنه ولد في (قُم) لا في مصر، وحينما سئل عن طبيعة التحالف بينهم وبين "حزب الله"، قال: "هو تضامن وتحالف وتأييد وكل شيء"، وحينما طلب منه الجواب حول وجود أجندة إيرانية للسيطرة على المنطقة وإشاعة النفوذ الإيراني قال: "هذا كلام يقوله أعداء الأمة". ولذلك أصبح "الإخوان" وكلاء إيران في المنطقة، وهم أكبر جماعة سنية داعمة لها، وفي المقابل تكفّلت إيران بدعم "الإخوان" سياسياً ومادياً وبخاصة "حماس" الذراع الجهادية لـ"الإخوان" في فلسطين، قامت إيران بدعمها بكل سخاء، ولولا هذا الدعم ما استطاعت "حماس" أن تقوم بانقلابها وتنفرد بـ"غزة"، ولما كان في استطاعتها البقاء في السلطة حتى اليوم، إيران، اليوم، لها "اليد العليا" على معظم الحركات السياسية السنية. إذا كانت هذه طبيعة تحالف "الإخوان" مع إيران، فما الذي جعل الشيخ القرضاوي -وهو أكبر مرجعيات "الإخوان" ينقلب على إيران؟! ما دوافعه -وهو داعية التقارب بين السنة والشيعة- في تفجير قنبلة "التبشير الشيعي"؟! ثم لماذا يزيد الفتيل اشتعالاً بربطه بين التحذير من التشيع، والقول بأن الشيعة يقولون: القرآن ناقص، ويسبون الصحابة؟ ما العلاقة بينهما؟ لقد شكّلت تصريحات القرضاوي، صدمة للشيعة ومفاجأة غير متوقعة بل شكلت صدمة -أيضاً- لكثير من علماء السنة بما فيهم "الإخوان" الذين لم يقفوا معه في هذا الموقف، وانتقده بعضهم في تعميمه، وقال كمال الهلباوي: "لا ينبغي أن يكون حرج بين المسلمين جميعاً فيما يعتقدون من مذاهب فقهية". يعلل الشيخ القرضاوي فزعته، بأن واجب الأمانة، وحق المسلمين، يمليان عليه أن يبصرهم ويحذرهم من "الغزو الشيعي"! وقد استفزه تحول عدد من المصريين إلى التشيع، ويقول: إنه يؤيد "حزب الله" في مقاومته، لكنه لا يقبل اختراق الشيعة البلاد السنية، وهو يدعو للتقارب، لكن ليس معناه أن يتحول السني إلى شيعي. ويضيف: أن الشيعة يعملون بـ(التُقية) -إظهار خلاف الباطن- وعلينا أن نقف ضدهم ونحمي البلاد من غزوهم. لقد شن الشيعة هجوماً عنيفاً عليه، وطالب "السيد المهري" في الكويت، الأزهر بـ"خلع" عمامة القرضاوي، كما طالب قطر بنزع الجنسية منه وإبعاده، وقامت "حماس" الإخوانية بإرسال خطاب إلى آية الله "خامنئي" تبتهل فيه إلى الله أن يحفظ خامنئي ونجاد، واعتبر ذلك رداً على القرضاوي وتأكيداً لتحالف "الإخوان" مع إيران. هل المخاوف من تحول المصريين إلى الشيعة هي الدوافع الحقيقية لفزعة الشيخ؟ وهي المخاوف التي يبررها بأن "حصانة المصريين" تجاه الغزو الشيعي ضعيفة، فهل هي السبب؟ إذن لماذا لا يشاطره في هذه المخاوف، كبار علماء ومفكري مصر أنفسهم؟ ولماذا قاموا بالرد عليه، رفض شيخ الأزهر الدكتور سيد طنطاوي هذا التحذير وتساءل مستنكراً: هل الشيعة بهذه الخطورة؟ ونفى الدكتور العوا، وجود نشاط شيعي في البلاد السنية، وقالت "آمنة نصير"، لا يوجد خطر شيعي، وإثارة القضية محاولة سياسية لفرقة المسلمين، وأصدر الدكتور أبوالمجد رداً على القرضاوي. إذن هؤلاء الكبار لم يشاطروا القرضاوي مخاوفه على مصر، وقالوا إنه مبالغ فيها، والشعوب لا تتحول بين يوم وليلة من مذهب لآخر، فضلاً عن أنه ليس من طبيعة المذهب الشيعي، "التبشير" كبقية المذاهب الإسلامية. إذن ما طبيعة فزع الشيخ؟! أظن، وقد يكون هذا أحد الأسباب، أن الشيخ استفزه بعض المصريين الشيعة الذين دأبوا على استهدافه بالهجوم والرد عبر وسائل الإعلام المصرية، وبعضهم أفرد كتاباً للرد عليه بعد أن دافع الشيخ عن معاوية في أحد كتبه. وفي تصريح الشيخ ما يدل عليه إذ يقول: "الآن، هم موجودون في الصحف وعلى الشاشات ويجهرون بتشيعهم وبأفكارهم". ولسائل أن يقول: وماذا في ذلك؟ أليسوا مواطنين وذلك أبسط حقوقهم؟ لقد فزع الشيخ مما لا خطورة فيه وسكت عما هو خطير فعلاً أي "التشيع السياسي" مدفوع الثمن. لو حذر الشيخ من المشروع الإيراني الخطر الذي يتسلل تحت غطاء "المقاومة" في العمق العربي لكان أجدى، لو حذر الشيخ من التمويل الإيراني الهائل الذي تُشترى به ولاءات الجماعات الجهادية وبعض فصائل الإسلام السياسي لكان خيراً. لا خطورة في الولاءات "الدينية"، فملايين الشيعة في الخليج والعراق وغيرهما مواطنون ولاءاتهم السياسية لأوطانهم وإن كانت ولاءاتهم المذهبية لمراجعهم في "قم" و"النجف"، فلا يجبّ الولاء "الديني" الولاء "السياسي"، لو أنصف الشيخ لطالب "حماس" بفك ولائها لإيران وعودتها لبيتها. "القاعدة" فهمت اللعبة السياسية عندما قالت إن "حزب الله" يستخدم القضية الفلسطينية مطية لاختراق "حماس" و"الجهاد". يجب تأكيد أن صراعنا مع إيران "سياسي" لا "مذهبي".