تنبأ عالم الفيزياء النووية "ليو زيلارد" ذات مرة بأن يؤدي سقوط النظام السوفييتي في نهاية المطاف إلى سقوط النظام الأميركي. وقال إن العلاقة في نظام يقوم على مكونين تكون من الترابط بحيث لا يستطيع الواحد العيش والاستمرار بدون الآخر. وإذ أعترف بأنني لست في موقع يسمح لي بشرح وتفسير الأساس المنطقي لوجهة نظر "زيلارد"، إلا أننا نرى النتيجة اليوم في النظام المالي، وفي الحروب. وأعتقد أن "زيلارد" كان يلمح إلى ما كشفه أيضاً خصم ذكي جداً للولايات المتحدة حين وضعت الحرب الباردة أوزارها، وهو "جورجي آرباتوف"، الرئيس السابق لمعهد الولايات المتحدة وكندا في الاتحاد السوفييتي، حين قال لمخاطبه الأميركي: "نحن على وشك القيام بشيء خطير حقاً ضدكم، إننا سنحرمكم من عدوكم"! فبدون العدو، تبدأ آلة القوة في الاشتغال بدون أن تجد شيئاً يقاومها، فيحل جنون العظمة ويستحكم فيها. ثم إن نهاية الحرب الباردة تزامنت مع بداية النظام المالي المعولم في الولايات المتحدة في عهد إدارة كلينتون، والذي تميز بمقامرات ومجازفات أكبر وأكثر جرأة حلت فيها نفسية الجشع والإفراط محل قيود وتوترات الحرب الباردة. وهكذا، يمكن تفسير الأزمة الاقتصادية التي ضربت الولايات المتحدة باعتبارها النتيجة المنطقية لنظام مالي وصل إلى نقطة حيث لم يعد يوجد حد لما يمكن أن تجنيه منه حتى حين كنت غير قادر على فهم الصفقات التي تعقدها. بيد أن الأقل وضوحاً بالنسبة لمعظم الناس، وإن لم يكن الأقل واقعية، هو مؤشرات سقوط وشيك لنظام عسكري أميركي "البنتاجون" تفاقمت فيه منذ نهاية الحرب الباردة المشاكل إلى درجة خرجت عن السيطرة، وباتت تصم كلًا من الرجل الذي كان وزير الدفاع حين بداية ما يسمى بالحرب على الإرهاب، وروبرت جيتس، الرجل المسؤول اليوم عن الوزارة حين تحولت تلك الحرب إلى "حرب طويلة". فقد أعيدت تسمية الحرب إلى "الحرب الطويلة" لأنه لا أحد لديه اسم أفضل، والجميع تقريباً يخشى استمرارها إلى الأبد، ما دام أنها تبدو حرباً ضد الفوضى والدول الفاشلة والمارقة والبؤس الجماعي لكل العالم الذي يقع خارج حدود الولايات المتحدة وأوروبا. في 10 سبتمر 2001 ألقى وزير الدفاع حينذاك دونالد رامسفيلد خطاباً أعلن فيه أن أكبر تهديد يواجه أمن الولايات المتحدة هو المؤسسة التي كان يرأسها: البنتاجون، وبيروقراطيتها. وقال إنه تتعين السيطرة على الفوضى والمشاكل الهيكلية التي تعاني منها -وهو تعهد لم يكن واثقا من انه سينجح فيه، ولكنه لم يدخر جهداً في سبيل تحقيقه. وفي اليوم التالي، حدثت الهجمات الإرهابية المهولة التي استهدفت مركز التجارة العالمي و"البنتاجون"؛ فتم التخلي عن معظم الإصلاحات التي كان يعتزم تنفيذها. وكانت لدى رامسفيلد رؤية ما بعد حداثية للحرب تقوم على تحكم عدد محدود من القوات الخاصة على الميدان في أنظمة الاستخبارات الإلكترونية، وقوات جوية ذات تكنولوجيا عالية، وطائرات بدون طيار لتدمير الأعداء البدائيين. وكان المشاة التقليديون سيصبحون شيئاً من الماضي. وكان رامسفيلد يحتفظ بصورة صحفية في مكتبه لأحد أفراد القوات الخاصة يركب حصاناً يركض في الهضاب الأفغانية بينما يقوم بتوجيه هجوم من الجو ضد "طالبان". ولكن عدداً كبيراً من الضباط التقليديين عارضوا أفكار ومخططات رامسفيلد؛ ووجد أفراد "طالبان" عاثرو الحظ، الذين كانوا قد أعدوا الخنادق استعداداً لهجوم بري، أنفسهم أهدافاً لقنابل مقاتلات "بي 52" القادمة من قواعد في الولايات المتحدة وبريطانيا والمحيط الهندي، والتي لم ينجُ من قصفها الجنود الفلاحون ولم تنفع في الاحتماء منها السدود والحواجز التقليدية. وبعد ذلك، سُلمت أفغانستان إلى زعماء الحرب الذين كانوا قد هُزموا من قبل على يد "طالبان"؛ وذهب رامسفيلد إلى العراق يبحث عن نصر جديد عبر أسلوب "الصدمة والرعب"، سرعان ما تحول إلى إخفاق لأنه لم يكن ثمة ما يكفي من المشاة التقليديين. والواقع أن عدد المشاة التقليديين في العراق مازال غير كافٍ لأن استعمال قوات الاحتلال، أو إساءة استعمالها، ثنى الأميركيين عن الانضمام إلى الجيش الذي يقوم كله على التطوع. واليوم، هناك حرب جديدة/ قديمة في أفغانستان، تمتد إلى باكستان، والقادة العسكريون يطالبون بمزيد من القوات البرية؛ ولكن الوزير "جيتس" لا يتوفر على أعداد كافية منهم، اللهم إلا إذا أخذهم من العراق (وأعلن الانتصار هناك، في خطوة متسرعة). وقد اتهم الخطاب الذي ألقاه جيتس مؤخراً أمام جامعة الدفاع الوطني في واشنطن بيروقراطية "البنتاجون" بأنها مهووسة بالأسلحة عالية التكنولوجيا الرامية إلى هزيمة أعداء للولايات المتحدة لم يوجدوا (بعد)، وذلك باستعمال أسلحة متطورة جداً. كما اتهمها بـأن لديها "تصوراً مثالياً وانتصارياً ونرجسياً يتطلع إلى نسف المبادئ الثابتة للحرب". وقال "جيتس" إن توجه "البنتاجون" خلال أربعة عقود كان نحو عدد أقل من الجنود مقابل تكنولوجيا أعلى وأكثر تطوراً، ونحو أنظمة أسلحة "أكثر تعقيداً وأكثر تكلفة، يستغرق صنعها وقتاً أطول، وتُستعمل بكميات أقل". والواقع أنه لا يوجد توصيف أدق وأفضل لبيروقراطية دخلت في حالة تفسُّخ وانحطاط، كما ينطبق التوصيف نفسه على النظام المالي الذي ضاعف القيمة الظاهرية لسندات هي في الأساس عديمة القيمة. (ألم يخبرنا ألان جرينسبان، المدير السابق للاحتياطي الفيدرالي، بأن النظام المالي الأميركي اخترق جدار صوت النظام المالي المعروف، وبأنه اليوم يوجد في بُعد جديد بالكامل). أعتقد أن ما كان يقصده "ليو زيلارد" هو أن نظاماً ما حين يتخلص من المعارضة التي تحافظ عليه صادقاً ونزيهاً، يتحول إلى غرور واعتداد بالنفس، يُعرف أيضاً بالإفراط غير العقلاني في الحماس؛ ولكن بعد الغرور يأتي السقوط. ويليام فاف كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفيس"