منذ قرون، ومع بداية عصر النهضة قرر مكيافيللي حقيقة مهمة مفادها "أنه لا شيء يعلو فوق الدولة "، مؤسساً بذلك قاعدة سياسية مهمة وهي أن الجميع تحت الدولة، أو بتعبير أدق، تحت هيمنة الدولة. وها هو اليوم الذي نشاهد فيه أساطين المال والأعمال في العالم يتوسّلون الدولة للتدخل لإنقاذ ما تبقى من مؤسسات مالية، ولإنقاذ ملايين الأسر التي ستعاني طويلاً خلال السنوات القادمة بتسديد ما عليها من قروض وفوائد قروض تعمل ليل نهار غير عابئة بما يحدث في السوق من انهيار مالي وتدهور اقتصادي. لقد أعلنت الأزمة المالية العالمية نهاية خرافة الاقتصاد الُحر، كما أعلنت فوز النظرية الماركسية في المجال الاقتصادي. ولا حجة لمن سيستشهد بسقوط الاتحاد السوفييتي السابق، لأن السقوط كان سياسياً من جهة، كما أن الاتحاد السوفييتي لم يطبق مفهوم ماركس في هذا الموضوع من جهة أخرى. لكن في جميع الأحوال، لا أحد يرغب بعودة النظام السوفييتي وأيديولوجيته الماركسية، كما أنه لا بديل في المدى المنظور للنظام الرأسمالي القائم على اقتصاد السوق. وفي جميع الأحوال كانت الدولة هي سيدة الموقف. وبدونها لن تقوم للسوق المالي قائمة، وبدونها لن ينهض الاقتصاد الوطني أو العالمي. لقد بينت الأزمة المالية الحالية أن الدولة ليست سوى "ليفياثان"، ذلك التنين الهائل المهيمن على حياة الإنسان، والذي هو من صُنع الإنسان نفسه، كما يقرر المفكر الإنجليزي توماس هوبز. الدولة اليوم سواء كانت كبيرة أم صغيرة، المهم أن تكون غنية، هي الملجأ والملاذ الأخير للمؤسسات المالية من الانهيار التام، ومن المحتم تدخل الدولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من المؤسسات المالية بما تملكه من فوائض مالية، وقدرة تشريعية غير محدودة، بل ولا تملك الدولة حق عدم التدخل في مثل هذه الكوارث المالية، لأن عدم التدخل يعني الموت البطيء ليس لمؤسسات، بل لبشر يعيشون على هذه المؤسسات، ولأن اقتصاد الدولة مهدد بالانهيار التام بطريق غير مباشر، وهو ما سيؤدي بالتالي إلى انهيار الحياة الاجتماعية. مشكلة الاقتصاد أنه يرتبط بحياة الناس. بمعنى أنه يمكن التوقف عن ممارسة السياسة والتعليم، بل وحتى إقامة الأسرة من خلال مؤسسة الزواج، فيما لو تأثرت الحياة الاقتصادية أو المالية بعوامل سلبية. بل ومن المضحك حقاً أن حياة الناس اليوم وأمزجتها قد أصبحت مرتبطة بمؤشر السوق المالي، ما يُعرف بالبورصة، وأفضل تسمياتها بـ"الكازينو "، حيث يقوم معظم الساعين للمشاركة في نشاطاته بالبيع والشراء بناء على ما يسمعه أو ما يتسرب إليه من أخبار اقتصادية، وهو بذلك كمن يجلس أمام آلة القمار، ثم يضع النقود ويسحب مقبض اللعبة على أمل أن يربح. أو أن يقوم باختيار رقم من على طاولة القمار على أمل أن يربح وهكذا دواليك حتى يخرج خاسراً أو رابحاً. لكن هل من حقه أن يطلب من إدارة "الكازينو" مساعدته مالياً بعد خسارته؟ نعم، ولكن بشكل قرض جديد!! العالم اليوم أمام كارثة عالمية تحتاج إلى تضافر جميع الدول التي تملك الأموال الهائلة، ويا بخت الدول الأفريقية، وسوء حظ الدول الخليجية، لأن الدول الغنية ملزمة اليوم بإنقاذ أسواق المال. وبذلك تتسيد الدولة الموقف من جديد. يقف صانع القرار السياسي سواء من خلال المؤسسة التشريعية أو بقرار إرادة منفردة في الدول التي لا يوجد بها برلمان، ليضع إصبعه على الجرح لإيقاف النزيف، ثم بعد ذلك يتدخل جراحياً لإنقاذ حياة المريض. لقد صدق مكيافيللي حين قال "الدولة فوق الجميع".