تبين من خلال المقالين السابقين، اللذين خصصناهما لشرح رأي ابن خلدون للطورين الأول والثاني من أطوار الدولة، أن العنصر الفاعل في تأسيس الدولة هو العصبية وأن العنصر الذي به تَبني مجدَها وعظمتها هو المال. وإذن فإن العصبية والمال هما الدعامتان الرئيسيتان اللتان عليهما يقوم كيان الدولة: فبالعصبية والشوكة تستطيع العصبة الثائرة المطالِبة إحرازَ النصر وتأسيسَ الملك، وبالمال تستطيع هذه العصبة أن تبني مجدها، فتنتقل من خشونة البداوة إلى رقة الحضارة. وبناء عليه فإن الهرم إنما "يطرق" الدولة إذا تعرض للخلل أحد هذين العنصرين أو كلاهما. ذلك ما يقرره صاحب "المقدمة" في فصل مهم بعنوان: "فصل في كيفية طروق الخلل إلى الدولة"، يقول فيه: "اعلمْ أن مبنى الملك على أساسين لابد منهما، فالأول: الشوكة والعصبية وهو المعبّر عنه بالجند، والثاني: المال الذي هو قوام أولئك الجند وإقامة ما يحتاج إليه الملك من الأحوال؛ والخلل إذا طرق الدولة، طرقها في هذين الأساسين". يشرح ابن خلدون هذه الفكرة فيرى أن صاحب الدولة، عندما يذهب به الاستبداد إلى أقصى مداه، وعندما يعمد إلى الإكثار من الضرائب والمغارم إلى الحد الذي لا مزيد عليه، تتفكك عرى العصبية وتضعف لحمتها من ناحية، ويضجر السكان ويتقاعسون عن العمل من ناحية ثانية، وتكون النتيجة ضعف الدولة بفساد عصبيتها، ودخولها في طور الهرم نتيجة الأزمة الاقتصادية المحتومة التي يتسبب فيها تجاوز النفقات للمداخيل، وعدم إيفاء الدخل بالخرج. هذه الوضعية، وضعية ضعف السلطة، ونشوب أزمة اقتصادية هي ما يقصده ابن خلدون بحالة "هرم الدولة". وهو يؤكد، من جهة أخرى، أن دخول الدولة في مرحلة الهرم لا يعني ضرورة اضمحلالها وزوالها نهائياً، وذلك للاعتبارات التالية: أ- قد يحدث أن يكون صاحب الدولة في وضع يستغني فيه عن العصبية جملة "بما حصل لها (للدولة) من الصبغة في نفوس أهل إيالتها، وهي صبغة الانقياد والتسليم منذ السنين الطويلة التي لا يعقِل (يتصور) أحد من الأجيال مبدأها ولا أوليَّتها، فلا يعقلون إلا التسليم لصاحب الدولة، فيستغني بذلك عن قوة العصائب؛ ويكفي صاحبها، بما حصل لها في تمهيد أمرها، الأجراءُ على الحامية من جندي ومرتزق، ويعضد ذلك ما وقع في النفوس عامة من التسليم، فلا يكاد أحد أن يتصور عصياناً أو خروجاً إلا والجمهور منكرون عليه مخالفون له، فلا يقدر على التصدي لذلك ولو جهد جهده". وأكثر ما يحصل هذا الانقياد والتسليم حينما تكون المناطق التي تحتملها الدولة قليلة العصائب، فتصبح الدولة بذلك عبارة عن "سلطان ورعية" لا غير. ذلك لأنه "إذا استقرت الرئاسة في أهل النصاب المخصوص بالملك والدولة وتوارثوه واحداً بعد آخر في أعقاب كثيرين ودول متعاقبة، نسيت النفوس شأن الأولية واستحكمت لأهل ذلك النصاب صبغة الرئاسة، ورسخ في العقائد دين الانقياد لهم والتسليم، وقاتل الناس معهم على أمرهم قتالهم على العقائد الإيمانية، فلم يحتاجوا حينئذ في أمرهم إلى كبير عصابة، بل كأن طاعتَها كتاب من الله لا يبدل ولا يعلم خلافه". ولكن ابن خلدون، يرى في مكان آخر، أن الدولة، رغم ما قد يحصل لها من الانقياد والتسليم، لابد أن "تتلاشى في ذاتها، شأن الحرارة الغريزية في البدن العادم الغذاء، إلى أن تنتهي إلى وقتها المقدور"، أو هي "تتلاشى إلى أن تضمحل كالذبال في السراج إذا فني زيته وطفئ". لا شك أننا هنا أمام تشبيهين جميلين: فالحرارة الغريزية في التشبيه الأول هي العصبية. وأما الزيت في التشبيه الثاني فهو المال. وبالتالي فإن الدولة تتلاشى في ذاتها حتماً، بتلاشي عصبيتها، أو بانقضاء مالها ووقوعها في أزمة اقتصادية. ولكن رغم جمال هذين التشبيهين فإننا لا نستطيع أن نتصور كيف يمكن أن تتلاشى الدولة في ذاتها، وتلقائياً، دون أن يكون هناك مُطالب أو منازع. إننا هنا أمام إشكال قد يدفعنا إلى أن ننسب إلى ابن خلدون القول بالجبرية العمياء التي لا ترأف ولا ترحم. ولكن علينا أن نتريث قليلًا حتى نستجمع أفكار ابن خلدون كلها، لنرى كيف يمكن تفسير هذا الاضمحلال الذاتي الذي يصيب الدولة حتماً. وإلى ذلك الحين فلننظر في الحالات الأخرى التي تضمحل فيها الدولة بفعل عوامل موضوعية معقولة. ب- عندما تصادف مرحلةُ هرم الدولة وجودَ مطالبين أو منازعين، أي عصبيات قوية تروم الاستيلاء على السلطة، تنشب "حرب أهلية" والنتيجة التي تفضي إليها هاته الحرب تتوقف على مدى اتساع نطاق الدولة الهرمة. فإن كانت عظيمة الاستيلاء واسعة الملك استقل الثوار بالمناطق البعيدة عن مركزها، فتنقسم الدولة هكذا إلى دولتين أو عدة دول، ثم يأخذ ملك صاحب الدولة في التقلص شيئاً فشيئا إلى أن ينتهي إلى المركز، وتضعف البطانة بعد ذلك بما أخذ منها الترف فتهلك وتضمحل و"تضعف الدولة المنقسمة كلها"، وحينئذ يتمكن المطالبون من الإجهاز عليها لضربها الضربة القاضية. أما إن كانت الدولة ضيقة النطاق في أصلها، فإن أمرها يسهل على المطالبين، إذ ربما يتمكنون من القضاء عليها دفعة واحدة، إذا كانت قوتهم تفوق قوة الدولة. أما إن كانت قوتهم مكافئة لقوة الدولة أو أضعف منها، فإنهم يكتفون بالملك الناقص، أي بالاستقلال بإحدى المناطق وانتظار الفرصة المواتية. ج- وهناك حالة أخرى تصير إليها الدولة في أواخر أمرها وهي حالة انتقال السلطة الفعلية إلى بطانة صاحب الدولة من الموالي والمصطنَعين، واحتفاظه هو بالسلطة الاسمية فقط. يحدث هذا عندما يكون المُلك قد استقر في نصاب معين ومنبت واحد "من القبيل (أهل القبيلة) القائمين بالدولة، وانفردوا به ودفعوا سائر القبيل عنه وتداوله بنوهم واحداً بعد واحد، بحسب الترشيح، (ففي هذه الحالة) فربما حدث التغلب على المنصب من وزرائهم وحاشيتهم. وسببه في الأكثر ولاية صبي أو مُضعَف من أهل البيت، يترشح للولاية بعهد أبيه أو بترشيح ذويه وخوَله، ويُؤنس منه العجز عن القيام بالملك، فيقوم به كافِلُه من وزراء أبيه وحاشيته ومواليه أو قبيله، ويورى عنه بحفظ أمره عليه حتى يؤنس منه الاستبدادُ، ويجعل ذلك ذريعة للملك، فيحجب الصبيَّ عن الناس، ويعوده اللذات التي يدعوه إليها ترف أحواله(...) إلى أن تستحكم له (للوزير) صبغة الرياسة والاستبداد، ويتحول الملك إليه ويؤثر به عشيرته وابنه من بعده". وهنا تستيقظ عصبية البيت صاحبة الرئاسة والملك، فتقوم بالثورة على هذا الوزير، وتُولي الأمر أحد الفروع التابعة للعصبية المخصوصة بالرئاسة. وعلى الجملة، فإن الثورات التي تحدث ضد الدولة في طور هرمها إنما تقوم بها، في الغالب، إحدى العصبيات التي كانت من قبل منضوية في عصبية الدولة أو متحالفة معها. فهذه العصبيات هي التي تملك القوة والجرأة على الثورة لكون أصحابها قد شاركوا في الحكم واستفادوا منه خبرة وأموالًا وأنصاراً، ولأنهم أيضاً يعرفون كيف تسنَّم صاحب الدولة قمة المجد حتى ترأس عليهم. فإذا رأوا أن المؤهلات التي رشحت صاحب الدولة للرئاسة عليهم، قد فسدت وزالت، قاموا بالثورة لتحصل لهم الرئاسة والملك. فتنتقل الدولة من منبت إلى آخر في أهل العصبية العامة الجامعة ويبقى الأمر كذلك، إلا إذا حدث في العالم "تغيير كبير"، من قيام دين جديد، أو ذهاب عمران، فحينئذ ينتقل الأمر إلى عصبية أخرى جديدة، كما أشرنا إلى ذلك من قبل. وبعد، فإن ابن خلدون يتحدث هنا مستحضراً وقائع التاريخ العربي حتى أيامه! ومع ذلك يبدو أنه لا شيء يمنع من ملء بعض "قوالب" خطابه بوقائع من التاريخ العالمي، يبرز بعضها بصورة جلية في أيامنا هذه! مسألة سيكون لنا فيها نظر.