إنْ تكن لعبة الشطرنج، الشرقية المنشأ، ذات البيادق من جنود وقلعتين وفيلين ووزيرين وملك إلى غيرها، مستوحاةً من ميادين القتال واستراتيجيات التحرك والتحصن، فإن لهذه اللعبة تاريخاً قديماً وامتدت شهرتها إلى اليوم حيث تكشف عنها البطولات والمحترفون والهواة، كما أن هذه اللعبة تُنَمّي القدرةَ التخطيطية وحساب رد فعل الآخر إزاء التحركات، وتعتبر أيضاً مثالاً لأفق وسماء التخطيط والعلاقات واستراتيجيات الأهداف من مستوى الأفراد إلى مستوى الدول في استراتيجيات التعاون والتنافس والصراع الاقتصادي والأمني. أما لعبة "المونوبولي"، فهي لعبة تجارية استثمارية تقوم على فكرة بيع الأملاك أو شرائها أو تأجيرها، ومن خلال تحريك البيادق على شكل سيارة وسفينة وقبعة، وعبر ما تحصل عليه في رمي الزهر، فلوحة اللعبة مقسمة إلى خانات تمثل مواقع للبناء ومحطات سكك الحديد ومرافق للخدمات العامة، وخانات ثانية إذا توقف عليها اللاعب يستطيع شراءها وتُشيَّد عليها منازل وفنادق، وخانات أخرى قد يحصل فيها اللاعب على مكافآت وغرامات مالية كما قد يسجن. وهناك خانات تجعلك تسحب بطاقات قد تحمل الربح أو الخسارة أو السجن. فهذه اللعبة الحديثة التي كنا نلعبها ونحن صغار في ثمانينيات القرن العشرين، لم نكن ندرك أنها لعبة تربِّي الأطفال على الرأسمالية وحب التملك والمغامرة والحركة، فقد كانت تدخل ضمن الحرب الباردة آنذاك، ونحن لم نكن نعلم ماهية تلك الحرب، فهذه اللعبة في اسمها كل الدلالة على الرأسمالية حيث تعني كلمة "مونوبولي" في اللغة الانجليزية الاحتكار، وجدير بالذكر أن هذه اللعبة لم تشتهر مثل الشطرنج كما أنها تقتصر على صغار السن والمراهقين. ففي استحضار اللعبتين، الشطرنج و"المونوبولي"، تكمن علاقة التخطيط والاستراتيجيات والحسابات المعقدة والنتائج المترتبة عن التحركات، بواسطة لعبة الشطرنج، وحب الربح والتملك والتحرك الحر من خلال ما تفرزهُ لعبة المونوبولي. وما نود قولهُ هو أن هذا العالم لم يأت من فراغ وشُيِّد من دون أسس وفكر وتنظير، ولِنَقل إن لكل علم وفكر آدمَه ينتسب إليه؛ فعلم الاجتماع له آدمه هو ابن خلدون ولنسلِّم بأن آدم الرأسمالية هو آدم سميث، فهو من وضع فكرها ونظَّر لها من خلال تبادل السلع بين الأمم لمجرد فارق السعر، فقد كان مؤمناً بأن لكل أمة صناعات. وهنا نكتشف أن العلاقات التجارية والاقتصادية تأتي بنظرية التعاون والاتصال، ثم إذا تتبعنا النظريات والأفكار سوف نجد أن نظرية الاعتماد المتبادل بين الدول "لديفيد ميتراني" التي تؤكد بأن التعاون في محاور الصراع يؤدي إلى أطر من التعاون والاعتماد المتبادل بين الدول، تشير إلى حقيقة أن الكثير من الأفكار والنظريات متصلةٌ في حقول شتى، فهذا العالم اليوم عالم وُلد من رحم أفكار ونظريات علماء ومفكرين مختلفين ومتعددين وإن غَلبت عليهم الصبغة الغربية، خاصة في عصر النهضة الأوروبية وما تلاها كما في ظهور الولايات المتحدة الأميركية كمنارة للعلم والبحث والتنظير والصناعة وفلك كبير للتعاون والتنافس والصراع بين أجزاء هذا العالم ... إن واضعي النظريات والفكر هم صناع العالم. وهذه الشمس لا يحجبها كف الإنسان، فالرأسمالية تضع أطرَها التي ترسم العلاقات التجارية والصناعية والاستثمارية، بل وترسُم سلطةً للرأسمالية من خلال المثلث الرأسمالي بزواياه الثلاث أميركا وأوروبا الغربية واليابان. صحيح أن هناك من يرسم أطراً مهمة كالموارد المتنوعة في دول غير متقدمة والأيدي العاملة والمدن التي تمثل نقاطاً لتحرك بضائعَ وسلعٍ وشركاتٍ ورسوخِ شاشاتٍ للأسهم العالمية، وإنْ كانت هناك أسهم محلية، فهي متعلقة بصورة أو بأخرى بالأسهم العالمية، والمثال على وجود فاعلين من خارج هذا المثلث ما شهدنا في السابق، فعندما شب حريق في بئر نفطية خليجية تحركت الأسهم العالمية ولو لساعات، وهذا دليل على أهمية المورد النفطي وتأثيره المباشر وغير المباشر في اقتصاديات العالم، كما في تقلب أسعار برميل النفط أيضاً، أما المثال الآخر فهو دور اقتصاديات النمور الآسيوية من الصين والهند. إن الأزمة المالية العالمية تثبت بأن كثرة الودائع في الدول الكبرى أو دول المثلث الرأسمالي تأتي بنتائج وخيمة لعدم تحريك هذه الودائع في الإنتاج والصناعات، إذ كانت القروض متاحة من دون ضمانات ومن دون إنتاج، كما أن المضاربات في الأسهم العالمية المهمة أدت إلى خسائر، فكيف بالمال يأتي بمال بدون إنتاج؟. هذا مردُّه إلى المضاربات المبالغ فيها. لم يكن الفكر الرأسمالي يحمل أي خطأ سوى أنه، وعبر سلسلة من المفكرين والمنظرين، خضع لغريزة الإنسان وجشعهِ، وإن كان هذا الفكر قال ذات يوم "دعه يعمل دعه يمر" فقد خرج من يقول مُبالِغاً متطرِّفاً إن الرأسمالية تصحح نفسها بنفسها. إن ما حدث في الأزمة المالية لم يكن سوى نتاجٍ لجور وتطرف الرأسمالية، وكل ذلك راجع إلى بعض المحتكرين الذين يرغبون في لعبة الاحتكار (المونوبولي). وقد تدخلت الحكومة الأميركية وسط رفض اليمين الرأسمالي لمنع مسلسل الانهيارات التي تشمل قطاعات متداخلة من الرهن العقاري إلى إفلاس الشركات المختلفة وانهيار سوق الأسهم وتبخر المدّخرات وفقدان الوظائف. وتأسيساً على ردود فعل واشنطن وأوروبا، وما يحدث في اليابان وانعكاس الأزمة على العالم، فإننا سنشهد تصحيحاً كبيراً في النظام الرأسمالي العالمي، كما أن الدول سوف تنتهج سياسات مختلطة كفلسفة "الطريق الثالث"، وهو طريق يجمع الرأسمالية والاشتراكية، حتى لا يترك الحبل على الغارب. وقد تداهى الزعماء الأوروبيون في إيجاد المخرج، ولا شك أنهم يرغبون في زيادة حضور فلسفة "الطريق الثالث" ولا يريدون، على خلاف واشنطن، رأسمالية حرة بحتة، وهناك أدلة كثيرة جدا من الخلفيات التاريخية للرؤساء والأيديولوجية التي يؤمنون بها، كما أن الأوروبيين نادوا في السابق بمراقبة وتحييد الصناديق السيادية التي تشتري أسهم شركات ومصانع ومصارف أوروبية عملاقة كانت رمزاً كبيرا لقوة الدول، وهناك دليل آخر لأصحاب العقول الكبيرة تنبع من رغبة دول أوروبا في الحفاظ على هويتها الاجتماعية واللغوية والعرقية والحضارية من أن تكون أطرُ المال والاستثمار والصناعة والتكنولوجيا التي صنعها الغرب بفكرهِ وسواعدهِ سببًا في نقل التكنولوجيا والمعرفة والقوة الاقتصادية إلى هويات أخرى، فعلى سبيل المثال تستطيع الدول غير المتقدمة شراء وإقامة مصانع، ولكنها لا تملك التكنولوجيا وكأنها تأخذ هوية الدور لتلك المصانع والآلات، ولكنها لا تملك هوية الآلات والمصانع نفسها، وهذا دليل كبير. وعالمنا اليوم أيضاً على حافة أزمة غذائية كبيرة سببها الأول الاتجاه إلى الإنتاج الصناعي حيث نشهد أجيالًا سريعة للأجهزة والمتطلبات الحياتية المختلفة وبكميات كبيرة كما نشهد استنزافاً للموارد الطبيعية من طاقة وأخشاب وحديد وغيرها، وكل ذلك جعل الزراعة تتناقص والبشر يتزايدون تحت سماء يهددها التلوث. أتذكر عندما كُنت سَاليَ النفس والعقل كان يداخلني مَلَل من لعبة الشطرنج لأنني قليلُ الصبر والجَلَد وأحبُّ لعبة "المونوبولي" لأنها كمن يقول لي اِلعب ومُرَّ وتحرَّك واكسبْ بسرعة وكأنني فيها ومعها أحبُّ الحركة والمرح لكوني صغيراً. أما اليوم فلن تكون لعبة "المونوبولي" العالمية حرة كما في السابق، بل ستحكمها لعبة الشطرنج في تحركات صارمة ومحسوبة ومدروسة. ويبقى هناك قول لا بدَّ من فهمهِ، وهو أننا أصبحنا قرية صغيرة جداً تتصل وتتعاون وتتصارع وتتنافس وتتأثر فيما بينها، ولكن في هذه القرية قوى ومراكز واستراتيجيات تحدد أهم مسارات وطرق هذه القرية، هذا العالم، وتتحكم فيها. وعندما جف قلمي ورَفعت يدي عن هذه المقالة قال صاحبي وجليسي على طاولة المقهى إن اللعبة الإلكترونية "مقاتل الشارع" (Street fighter) أبطالها ينتمون إلى دول كبرى، فما دلالة ذلك؟